بقلم : أحمد بان
احوال مصر
لا شك أن تأثيرات موجة 30 يونيو التصحيحية لمسار ثورة 25 يناير، أعادت رسم ملامح جديدة لكل القوى السياسية ومنها بالطبع الكيانات الحركية الإسلامية، التي خضعت خرائطها لتطورات جديدة ولافتة.
يعود تأسيس أول كيان حركي إسلامي في مصر مثلته جماعة الإخوان المسلمين إلى العام 1928، لكن سبقها بالطبع نشوء جمعيات أهلية هي في حقيقتها كيانات حركية إسلامية، مارست في تقديري سلوكا حركيا مرنا وامتلكت رؤية استراتيجية بررت نشاطها مثل الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة التي تأسست في العام 1912، أو جمعية أنصار السنة المحمدية التى تأسست في العام 1926. وبمراجعة مذكرات أي قيادة من قيادات الكيانات الحركية التي نعرفها، سواء أكانوا إخوانا أم سلفيين أم جهاديين سنجد أن جميعهم أو جلهم تقريبا تربوا في مساجد تابعة لتلك الجمعيات، وتلقوا ثقافتهم الدينية عبر خطبائها وعلمائها، الذين نشط بعضهم ضمن تلك الكيانات الحركية التي نشأت بعد ظهور تلك الجمعيات.
كانت قضية استعادة الخلافة الإسلامية باعتبارها أصلا تعبديا، وأحد فرائض الدين وليس باعتبارها شكلا من أشكال الحكم التي تخضع لتطورات الأحوال والأمم، واحدة من أهم القضايا التي شكلت بواعث الحركة لدى كل هذه الجماعات، وإن لم تعلن ذلك في بيانات سياسية أو حتى خطب منبرية.
كما كانت مقاومة التبشير والتغريب باعثا إضافيا في تشكيلها أيضا، لذا يلاحظ مثلا أن جمعية أنصار السنة وكذا الجمعية الشرعية ركزت في أهدافها التي صدرت بها مطبوعاتها، على التوحيد وحماية العقيدة والنشاط في وجوه العمل الخيري، الذي كانت تتوسل به المجموعات التبشيرية التي حاولت الوصول إلى فقراء المسلمين عبر تأمين العلاج أو الغذاء مثلا.
مايهمنا أنه عبر قرن من عمر هذا البلد تقريبا، ومع بزوغ الدولة الوطنية في مصر في أعقاب ثورة 1919 شهدنا بموازاة ذلك، بزوغ حركات إسلامية تباينت بين الوجه السلفي الذي جسدته الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، أو جمعية أنصار السنة المحمدية فيما يمكن تسميته بالسلفية الساكنة، التي من أهم ملامحها الاهتمام بالتوحيد وما يسمى بالهدى الظاهر، الذي تمثله مفردات كاللحية والنقاب، وعدم الخروج على الحكام والاهتمام بتلقي العلم وتزكية النفس وإصلاحها، مع الاهتمام الوافر بعلوم العقيدة واتساع سلطانها على الأفكار والسلوك، وقد تغذت السلفية الساكنة على الميراث الوهابي الذى أعاد إنتاج تراث ابن تيمية وابن القيم، اللذان مثلا بدورهما إمتدادا لمدرسة أحمد بن حنبل كجذر رئيسي للسلفية.
كانت جماعة الإخوان تنويعا على تلك المدرسة، زاوجت بين الواقع السياسي الذى نشأت فيه وحلم الوصول للحكم الذى توسلت في الوصول إليه بارتداء أقنعة أربعة، اختارت القناع الأول لها قناعا صوفيا انسجاما مع المزاج العام للشعب ورغبة في كسب ثقته ولعشر سنوات فقط من تأسيسها وحتى العام 1938، قبل أن تنتقل في أجواء الحرب العالمية الثانية لترتدى قناعا جهاديا مع تأسيس النظام الخاص، قناع الجماعة الثاني الذى ارتدته لربع قرن قبل أن يكسر عبد الناصر شوكتها، ويجبرها على أن ترتدي القناع الثالث وهو قناع السلفية الساكنة، الذى مكنها من أن تتماهى مع التيار السلفى العام من جهة وتنسجم أيضا مع مزاج شكلته الطفرة النفطية، التي ساعدت على هجرة الكثيرين إلى الخليج وتبنى الثقافة الصحراوية بدرجة من الدرجات.
لكن هذا القناع الجهادي الذي خلعته الجماعة في نهاية العام 1966، نشأ معه طيف جديد ممن تسرب من عباءة الجماعة، ليؤسس مع نكسة يونيو اتجاه جهادي جديد جسدته جماعة الجهاد ومجموعات أخرى كمجموعة الفنية العسكرية أو مجموعة شكري مصطفى، وصولا إلى الجماعة الإسلامية وغيرها من تنظيمات العنف الأخرى التي خرجت من عباءة جماعة الإخوان، وامتلك بعضها رباطا تنظيميا معها ولم يكن لدى البعض الآخر هذا الرباط بالطبع.
ارتدت جماعة الإخوان قناعا جديدا مع العام 2004 مع نشأة حركة كفاية، وبروز طموحات بمناخ ثوري وحركات احتجاج في الشارع تكيفت معه الجماعة بمرونة تليق بتاريخها البرجماتي وطموحها في الوصول للسلطة. كان هذا القناع هو القناع الليبرالي حيث تبنت مطالب الحركة الوطنية وشاركت في تأسيس حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير، وتعاملت مع القوى الوطنية باعتبارها مسهل سياسي يتيح فتح الأفق السياسي من جهة، وتعويمها جماهيريا بشكل يتيح وصولها للحكم من هذا الباب ارتدت القناع الليبرالي، قبل أن تصل للحكم في العام 2012 وتحاول جمع شتات الحالة الإسلامية إخوانية وسلفية وجهادية تحت مظلة ما سمته الهئية الشرعية للحقوق والإصلاح، التي التقت كل مرشحى الرئاسة كما لو كانت هيئة مصلحة تشخيص النظام السنية، التي تمهد لاختيار خليفة المسلمين وكان اختيارها لمحمد مرسى ورضاها عن ترشيحه قناعة من هذا الطيف، أنه الأقدر على تجسيد مشروع الحركة الإسلامية بأطيافها السلفي والإخواني والجهادي المعبر عن تركيبة تلك القوي.
كان مشهد ما قبل الحكم عاكسا لوحدة اطيافهم ومشروعهم، قبل أن تكشر جماعة الإخوان عن أنيابها وتستأثر بالحكم وتزيح بطريقة خشنة بعض شركائها من الدعوة السلفية وحزب النور، وجرى على المشهد تطور جديد بخروج الإخوان من الحكم في 30 يونيو، وهو ما سمح بإعادة فرز خرائط الطيف الإسلامي لتصبح مابين إخوان مترددون في ارتداء قناع الجهاد مرة ثانية ومعهم التيار السلفي العام، الذي عاد بعضه إلى الكمون وانخرط بعضه في العنف.
خصوصا مع بروز لاعب جديد على الساحة غلب منطق التيار الجهادى أو التكفيري المتوسل بالعنف بالأحرى، وهو تنظيم الدولة المعروف باسم داعش والذى تمدد نفوذه المسلح ليسيطر على دولتين مركزيتين كسوريا والعراق، كما امتلك موطأ قدم في ليبيا وسيناء بعد مبايعة أنصار بيت المقدس لداعش، واليمن ونيجيريا وشمال مالي، في صعود لافت وملهم يعيد تموضع حركات العنف في الوعى الجمعي للإسلاميين، خصوصا مع إخفاق تجارب المشاركة السياسية لحركات كالإخوان وما تعانيه أحزاب أخرى أصرت على المشاركة السياسية حتى بعد 30 يونيو، كحزب النور الذى حاول أن يسوق نفسه باعتباره عنوانا للسلفية الهادئة المتصالحة مع الدولة، حتى أنه قدم قوائم للترشح في البرلمان تضم أقباطا في قفز على أفكاره ومزاج أعضائه، حيث إعتادت معظم حركات الإسلام السياسى أن تسبق الحركة التنظير.
كنا قبل 30 يوينو بين طيف سلفي إخواني جهادي تحول بعدها إلى طيف جديد جهادي يضم التيار السلفي العام في جهة وحزب النور في جهة أخرى. فكيف ستكون خرائط تلك الكيانات في المستقبل هل تحسم تلك القوى الاجتماعية خياراتها بإنتاج فقه سياسي يبرر حركتها كحزب سياسى محض أم ستبقى على الصيغة الملتبسه لمن يصر منها على المشاركة السياسية والحفاظ على حزب وجماعة معا؟
أتصور أن جماعة الإخوان في حقيقتها كحزب سياسي قد تنقسم إزاء تلك القضية إلى قسم يشارك سياسيا عبر أحزاب أخرى، وقسم يخرج تماما من المشهد، وقسم يبقي على نفس الإلتباس في الحركة بينما لا أرى مستقبلا لحزب النور كحزب سياسي، حتى وإن اتسم سلوكه بالمرونة المفتعلة، حيث أنه يبقى متهما من الجهتين فهو لدى أنصاره مفرط فيما يعتقدون أنه ثوابت عقدية، ومتهم لدى الجمهور العام بممارسة تقية الإخوان السياسية التي لم تعد تنطلي على أحد.
يبقى المكون الجهادي في الكيانات الحركية هو الوحيد الذي يصر على المضي في خطته، وللأسف الشديد مع تراجع مسارات السياسة يقوى منطقه مقابل باقي تلك الكيانات، بما يغلب سرديته على حساب باقي الروايات.