احمد بان
يبدو مستقبل جماعة الإخوان أمرا يكتنفه الكثير من الغموض، ففي تاريخ الجماعة الذي وسمه الصدام الدائم مع كل الأنظمة ملكية كانت أم جمهورية، تكرر الجماعة في الغالب نفس الأخطاء ببساطة لأن عقلها وعيونها مصوبة دوما على الحكم. لذا فهي تبدو غير مكترثة أو حتى مستبصره لما يعترض طريقها. فقد درجت على لون من العمى الاستراتيجي لازم حركتها كان أفدح حلقاته بالطبع هو حرق أهم مرحلة كانت تتوسل بها في إكمال مشروعها، ألا وهي مرحلة المجتمع بمعنى إقناع المجتمع بمشروعها وتبنيه لها. فقد خدعها صندوق انتخابي لا تُنبئ نتائجه سوى عن القدرات التنظيمية والحركية، دون أن يفصح بوضوح ويقين عن الشعبية التي اكتشفت الجماعة أنها كانت زائفة، ولم تمتد يوما للجمهور العام بعيدا عن قواعدها التنظيمية.
عند الحديث عن مستقبل الجماعة يلزمنا الحديث عن ثلاثة مفردات تعبر عن الجماعة هي: الفكرة والتنظيم والمشروع.
على مستوى الفكرة انطلقت الجماعة من تصور لديها بأن الإسلام الحقيقي غاب عن واقع المسلمين، وأنه لم يعد يوجه سلوكهم أو حياتهم سوى في النذر اليسير، وأن الإسلام الحقيقي يحتاج إلى من يجسده في الواقع ليقترب من الصورة الذهنية التاريخية له والمحصورة لدى بعضهم في مرحلة النبوة والخلافة الراشدة حتى عبد الله بن الزبير، أو حتى في التجربة العامة للمسلمين في الحكم على ما هو معلوم منها حتى سقوط الخلافة العثمانية في العام 1924. لا يحدد الإخوان ولا غيرهم بالمناسبة ما هو التصور الأمثل للحكم الإسلامي من وجهة نظرهم حيث لم تسعفنا تجربة المسلمين فيما هو مدون عنهم سوى ببعض القيم السياسية كالحرية والعدل والشورى، دون أن تضع إطارا صارما على حد ادعاء الإخوان حول الخلافة، التي اعتبروها أصلا من أصول الدين حيث لا يشاركهم أحد من أهل السنة هذا التصور. فقد انطبع في العقل السني أن أركان الإيمان ستة هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، بينما اعتبر الشيعة أن أصول الدين أربعة التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، يلتقي الإخوان إذن وحدهم من بين أهل السنة مع الشيعة في هذا الأصل.
تصور الإخوان أن إعادة الخلافة الإسلامية هي قوام أهدافهم وغايتهم الكبرى، التي توسلوا في الوصول لها بنظرية وضعها البنا تعتمد تحويل المجتمع كله إلى تنظيم، من خلال تنظيم يسعى لالتهام المجتمع بعد إقناعه بهذه النظرية التي تبدأ بإعداد الفرد، ليكون كادرا تنظيميا يتبنى هذا المشروع ويبني أسرة تتحرك بنفس التصور، لإقناع هذا المجتمع بتبني هذا الهدف وهو إنشاء ما أسماه حكومة إسلامية، تتوسل بالحكم والإدارة في تحويل الدولة إلى دولة إسلامية، تلتئم مع غيرها من دول إسلامية ينجزها نفس التنظيم، مكونة الخلافة الإسلامية التي كان يراها مقدمة لما سماه أستاذية العالم، التي تمر لديه عبر إنجازات التنظيم وبعيدا عن المنجز البشري الذي جعل أستاذية العالم معقودة بالفعل منذ قرون لدول كأمريكا وأوروبا واليابان في كثير من المجالات.
هذه الفكرة التي تشربتها عقول أعضاء الجماعة، والتي لم تخضع مع غيرها لأي مراجعة ثبت بالدليل الدامغ فشلها في كثير من الأماكن التي حاز فيها الإخوان السلطة، فلم ينجز الإخوان في السودان سوى تقسيمه وإفقاره وإضعافه وتخلفه بعد أكثر من عشرين عاما في الحكم، وهو مالم يحتمل المصريون تكراره في مصر، حيث كان عام واحد لإخوان في الحكم كفيلا بالثورة عليهم ودفعهم لمراجعة تلك الفكرة التي تسلطت على عقل المؤسس وتبناها أنصاره عبر عقود. وأتصور أن هذه الفكرة رغم غبار المظلومية والثأر سوف تكون من أهم مفاتيح تفكيك الجماعة، ودفع الأنصار للتخلي عنها رغم أن الجدل لا زال أكبر حول مستقبل التنظيم الذي تحول الحفاظ عليه في وعى قيادات الجماعة وبعض أعضائها إلى هدف في حد ذاته، وليس مجرد وسيلة. هذا التنظيم ربما يواجه نفس ما واجهه عبر عقود سواء في تجربته مع نظام جمال عبد الناصر، الذي ساهم مشروعه التحديثي أكثر مما ساهم قمعه في إنهاء أسطورتهم، ولولا السادات ما عبر التنظيم عتبة السبعينات أما مبارك فقد واصل ما بدأه سلفه في دعم التنظيم بوعي أو دون وعي، حتى مع دوره الوظيفي كفزاعة في مواجهة الداخل والخارج للتسويف في مطلب التحول الديمقراطي، الذي كان التنظيم ولا يزال أحد أسباب تأخره. لذا يبدو هذا الدور دورا وظيفيا لعبه الإخوان لكنهم ربما زهدوا به خصوصا بعد صدمة الخروج السريع من الحكم، الذي عزز انكشاف مشروعهم الذي فشلوا في الدفاع عنه أو المرور به، سواء فترة وجودهم في الحكم لمدة عام حيث ساهم الشبق للسلطة التي داعبت خيالهم لعقود أو إقدامهم على التعجل في الاستحواذ وإهدار بناء التحالفات الصحيحة أو المشاركة مع باقي القوى التي شاركت في صناعة الثورة التي حملتهم للحكم، أو حتى بعد خروجهم منه حيث لم يفلح الجمع بين تناقض الثورة والمظلومية، الذي تعكسه حتى اختيارات أسماء قنواتهم. فواحدة من تلك القنوات أطلق عليها “رابعة” في استدعاء للمظلومية، والأخرى نعتوها “مكملين” في تأكيد على روح الثأر والصراع الصفري، بما يعكس الارتباك الواضح في العقل الإخواني بين الإصلاح الذي كان دوما الخيار المفضل لعقود، والثورية التي طرأت عليها وتدعيها تحت الشعور بلوعة فقد الحكم.
تبدو كل مفردات الجماعة ماضية بالقصور الذاتي دون أي أفق، فالجماعة التي تعاني المكابرة الجمعية لا تريد أن تصارح نفسها بأمراضها لكي تشرع في العلاج، حتى أنها لازالت تخلط بين السري والعلني حتى في العلاج. فالجماعة تتحدث في السر عن لجنة حكماء تضم أعضاء من خارجها وبعضا من داخلها تعيد تقويم الموقف وتضع توصيات ملزمة وتسعى لهدنة تترك فيها المشهد السياسي لثلاث سنوات تراها كافية لترميم التنظيم واستعادة ثقة المجتمع، بينما تشهر في العلن مظلة التحالف الوطني لدعم الشرعية الذي يجاهر أحد قياداته من تركيا أن التحالف بعد ما يقرب من عامين فشل في بلوغ أهدافه، وعلينا أن نفكر في صيغة أوسع ومظلة أوسع من الإسلاميين لإكمال الثورة، بعد عامين يكتشف ذلك! وبالتالي ليس غريبا أن تلجأ قيادة الجماعة في مواجهة تحالف فشل إلى إشهار تحالف آخر أكثر فشلا، مثل ما أسمي بالمجلس الثوري الذي استقال رئيسه لأنه شعر متأخرا كالعادة، أن قيادات الجماعة تمارس وصاية بغيضة على شركائها ولا تفهم المعنى الصحيح للشراكة. هذا الالتباس بين السري والعلني، بين الإصلاح والثورة، بين الاستفراد والشراكة كلها أعراض لمرض الفكرة ذاتها وعيبها البنيوي، الذي يقودها لوهم أنها قادرة على التهام الوطن، الذي ألتهم كل فكرة تقسم الشعب الواحد وتحول مجموعة من الناس إلى طائفة من المجتمع تتزايد عزلتها يوما بعد يوم. كتب أحد الباحثين في السابق واصفا حالة الجماعة قبل الثورة بأنها في حالة شيخوخة تصارع الزمن، ويبدو أنه أضيف إلى الزمن أشياء أخرى تعجل ربما بانتهاء الجماعة بشكلها المعروف، بعد أن تحسم خياراتها حول الدور الذي ستختاره لنفسها إما فضاء الدعوة الذي يحتاج لمقاربة فكرية مختلفة، وإما فضاء السياسة والحكم الذي لا يحتاج سوى أن تصارح نفسها بأن هذا هو دورها الأصلي والأثير، والذي توسلت في الوصول إليه بالدين وكان الأولى أن تفقه ما قاله بن كيران أحد أبنائها عشية فوزه بمنصب رئيس الوزراء في المغرب “لم ينتخبنا الشعب المغربي لكى نفرض عليه تصورنا عن الإسلام، بل لنعالج اختلالات اجتماعية واقتصادية” تبدو فروق التوقيت عقبة تواجه العقل الإخواني في رؤية المستقبل. لكن الإخفاق في تحقيق أي هدف بعد خروج الجماعة من الحكم، سواء على مستوى الفكرة أو التنظيم أو المشروع، سيدفعها دفعا لمراجعة ستقودها لحل التنظيم وتأسيس حزب سياسي، أو الخروج من السياسة وتطليقها بالكلية وتأسيس العديد من الجمعيات الأهلية التي ينشغل كل منها بأعمال قسم من أقسام الجماعة السابقة، امتثالا لوصية نبي الله يعقوب لبنيه “وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وأدخلوا من أبواب متفرقة”.
احوال مصر