تجذبك صفحاتها.. وتثير شغفك.. تجعلك تتلهف لمعرفة المزيد، فتسارع لتقليب الصفحات لتعرف ما قاله صاحب المذكرات نوبار باشا أول رئيس لوزراء مصر نوبار القادم من أصول أرمنية الذى أصبح الموظف المرموق، وداهية السياسة المصرية، إذ تولى منصب رئاسة النظارة أو الوزارة ثلاث مرات وقبلها كان يشغل العديد من المناصب إذ عمل وزيرا للنقل والأشغال والداخلية والخارجية مذكراته التى تقع فى 675 صفحة من القطع الكبير ما بين نوفمبر 1890 ومايو 1894، أى بدأ فيها وهو فى عمر يناهز الخامسة والستين ــ ولم يكن قد اعتزل العمل السياسى بعد ــ واشتملت على الفترة الممتدة منذ عام 1842 وحتى عام 1879 أى سبعة وثلاثين عاما، تغطى المدة من قدومه لمصر إلى عزل الخديو إسماعيل.
كتب يقول :
«إن من يرى مصر منذ أربعين عاما لا يسعه إلا أن يندهش من التحولات والإصلاحات التى حدثت بها. إنه عالم جديد هذا الذى يظهر.. إلى من يرجع؟ وما السبب فى هذا التحول؟ وكيف حدث؟. ما أن يتعلق الأمر بمصر الحديثة، فإنه دائما يجب الرجوع إلى محمد على الكبير.. إنه هو الذى حولها وفتح لها أبواب المدنية الحديثة والمنافسة مع أوروبا، ومن خلال الأبواب التى فتحها محمد على جرت الأحداث ودخلت الأفكار التى أكملت العمل الذى بدأه. وقد وجدت نفسى مدعوا لأداء دور فى هذه الأحداث، بل ووجدت نفسى واحدا من الذين ابتكروا كثيرا من هذه الأفكار. والآن وقد وصلت إلى عمر لا يعنى معه المستقبل شيئا كثيرا بالنسبة لى، سوف أعيش وأعايش هذه الذكريات والأحداث التى كنت أنا نفسى شاهدا عليها، وسوف أترك لنفسى العنان كى أبحر معها وسط تيار أفكارى». كلمات ذكرها نوبار باشا أول رئيس لوزراء مصر كمدخل لمذكراته التى كتبها فى مدينة كان الفرنسية فى نوفمبر 1890. ليبدأ تدفق الذكريات أو المذكرات. قبل القراءة وقبل الدخول الحقيقى فى عالم المذكرات لابد لنا أن نذكر هنا كلمات الدكتورة لطيفة سالم وهى مهمة إذ تقول: «ومن المؤكد أن للمذكرات أهميتها العلمية، فلها المكانة بين المصادر التى يعتمد عليها فى الكتابة التاريخية، ولكن لابد من أن تخضع لمنهج البحث التاريخى.. ولا نريد أن نسترسل فى بيان كيفية استخدامها، وإنما لابد من الإشارة إلى أن قراءتها يجب أن تكون فى حدود الزمن الذى عايشته حتى لا نصدر الأحكام التى تدين أو تبرئ أصحابها». ومن ناحيتنا نزيد على ذلك فنقول إنه يجب أن نقرأ المذكرات ونحن مدركون أنها مجرد استدعاء للأحداث والشخصيات ووقائع مضى عليها الكثير، لا تسجيلا يوميا، فضلا عن أن مذكرات نوبار باشا تتوقف عند عام 1879 أى لم يذكر فترة توليه النظارتين الثانية والثالثة، والتى كان بتسجيلها تكتمل المذكرات. وهذا لا يقلل من جمال المذكرات وأهميتها فهى ترسم جزءا من صورة مصر أيام من أرادوا إصلاحها وتطورها.
مضمون المذكرات
خدم نوبار باشا فى عهد ستة من ولاة مصر، محمد على باشا وإبراهيم باشا ثم عباس حلمى الأول ثم سعيد ثم إسماعيل ثم توفيق وأخيرا عباس حلمى الثانى، لذلك تشهد مذكراته على الكثير من تاريخ مصر فى عهد هؤلاء الولاة، وتكشف عن الوجه الآخر لنوبار باشا الذى كثيرا ما تعرض للاتهام بموالاته للأجانب على حساب المصريين. ورغم ذلك يقدم فى مذكراته بشكل عام ضيقه بسيطرة الأجانب على الوضع العام فى مصر، وسعيه لتأسيس المحاكم المختلطة للحد من هذه السيطرة. وتنقسم مذكرات نوبار إلى أربعة أقسام تضم واحدا وأربعين فصلا، بالإضافة إلى مقدمة وملاحظات لميريت بطرس غالى، وبعض الملاحق وأقسام المذكرات غير متوازية، فبينما يخصص صاحب المذكرات ستة فصول لمحمد على وإبراهيم وأربعة لعباس وستة لسعيد، فإن إسماعيل يستحوذ على خمسة وعشرين فصلا. وبديهى أن ذلك يرجع إلى عدة أسباب، ذكرتها د.لطيفة ( رئيسة مركز الدراسات التاريخية بدار الشروق الذي اصدر هذة المذكرات ) فى دراستها عن نوبار باشا، منها أن تلك الفترة قد تم فيها صياغة المشروع التحديثى، وأن نوبار قد بلغ مرحلة من النضج والخبرة مما كان له الأثر فى إسهامه بدور فعال فى توجيه الأحداث. وفى السطور الآتية نعرض فى الحلقة الأولى من قراءة المذكرات للستة فصول الأولى المخصصة لمحمد على وإبراهيم باشا، على أن تشمل الحلقة الثانية الفصول العشرة لعباس وسعيد، وننهى القراءة بعرض الفصول الخمسة والعشرين المخصصة للخديو إسماعيل الذى تنتهى المذكرات بتاريخ عزل الخديو إسماعيل.
بداية المذكرات
«وعندما اقتربت السفينة من مصر أيقنت أننى على وشك الدخول إلى عالم جديد».. عبارة قالها نوبار باشا فى فصله الأول (1842 ــ 1844)، وذلك بعد أن تم الاتفاق بين محمد على وبوغوص خال نوبار بأن يتم إرسال نوبار إلى مرسيليا للمطالبة بأوراق والده الشخصية. ومعروف أن نوبار ينتمى إلى الأرمن الذين أصبح لهم وضع خاص فى دولة محمد على، إذ اعتمد عليهم فى تنفيذ سياسته، بعد أن أيقن أمانتهم وثقافتهم ومهارتهم. ويحكى نوبار فى الأوراق الأولى من مذكراته انطباعاته عن مصر وحكم محمد على، وتوقف قليلا عند حادثة لا تزال ــ وقت كتابة المذكرات ــ تؤثر عليه وهى تجربة خاله بوغوص مع الوالى محمد على. يقول نوبار عنها: «ولا أزال حتى هذه اللحظة أرى تجربة خالى ماثلة أمامى وهو يعيش منطويا ومنزويا فى صالون صغير لا يستقبل أحدا ولا يذهب إلى الوالى قبل أن يصلى صلاة قصيرة وكأنه يدخل إلى قفص الأسد، وذلك بسبب تأثير الأحداث التى مر بها والمواقف الدموية التى كان شاهدا عليها وتركت آثارها فى نفسيته، بل إنه هو نفسه كاد أن يصبح ضحية غضب الوالى فى يوم من الأيام. حدثت الواقعة بعد فترة قليلة من تنصيب محمد على واليا على حكم مصر وكان بوغوص أو الخواجة «وهى كلمة تعنى سيد العمل» رئيسا لخزانة جمارك دمياط، وعلى أثر مناقشة بينه وبين محمد على فى بعض الأمور المالية استشاط الأخير غضبا وصاح قائلا : «فليسق من قدميه». وكانت هذه عبارة تعنى اعتقال شخص لإعدامه، فتقدم أحد القواسة بسرعة لتنفيذ الأوامر، وسيق بوغوص إلى خارج الغرفة، ولكن القواس كان تركيا وكان مدينا بمعروف له فتظاهر بأنه يقوده إلى شاطئ النيل لإلقاء جثته فيه بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه وأخذه إلى منزل مهجور حيث اختبأ وعاد القواس ليخبر محمد على بأن أوامره نفذت. وأضاف نوبار باشا أنه بعد فترة قصيرة مر محمد على بضائقة مالية فى رشيد واحتاج بشدة إلى النصيحة، فلم يستطع أن يمنع نفسه من الصياح قائلا: «رباه، لو كان بوغوص هنا لأنقذنى من هذه المحنة». واعترف بعد ذلك القواس بأنه لم ينفذ الأوامر، فصاح محمد على: «بوغوص حى؟! اذهب وأحضره حالا، وإلا دفعت رأسك ثمنا عن رأسه».
أحوال الرعية
بعد ذلك أوضح نوبار باشا إنجازات محمد على وأحوال الرعية «المسيحيين»، والذى يعد نوبار باشا واحدا منهم، مؤكدا أن محمد على فتح أمام مصر التقدم الصناعى الأوروبى، بل استدعى الطبيب والمهندس والبحار واحترم كل هؤلاء حتى يتعلم الناس بدورهم احترامهم. وليقرب نوبار باشا الصورة قال: «فقد كان هذا شيئا هينا؛ لأنهم كانوا ــ يقصد الطبيب والمهندس والبحار ــ من الأجانب والضيوف والسادة. لكن أن يتم رفع شأن المسيحى «الرعية» وأن يحترم من المسلم وأن يسير جنبا إلى جنب مع البك والباشا التركى أو الشركسى وأن تتم مساواته بالمسلم ويحظى بنفس الاهتمام والتكريم ــ هنا بالفعل كانت صعوبة العمل، الذى مثل انقلابا لكل المعتقدات والأفكار المتجمدة فى البلاد. وليدلل نوبار على كلامه حاول بكل الطرق أن يمتدح رؤية محمد على وإبراهيم ابنه لتقدم وتطور مصر، وحاول أن يتذكر كل الحوادث على تدل على ذلك منها، ففى فصله الثانى قال نوبار عن محمد على: «أقول إن هذا العادل الكبير، هذا المصلح للعادات وللأفكار المظلمة، كان محل تقدير الشعوب الكردية والتركية فى آسيا الوسطى، واعتبروه ممثل الإسلام بحق ومدافعا صلدا عن العقيدة فى مواجهة المسلمين غير الأوفياء فى القسطنطينية، الذين تأثروا بالتقاليد الأوروبية ويتلقون أوامرهم من موسكو». وفى منطقة أخرى من المذكرات يذكر نوبار باشا أن محمد على هو الذى غير فى مصر كل الأفكار السائدة فى الشرق، كل هذه الأفكار المتخلفة عن أوروبا.. إنه هو الذى كسر واخترق الحاجز الذى كان الشرق قد غلف نفسه به باستدعاء العنصر الأوروبى وتشجيعه على الإقامة فى البلاد والاستقرار بها عن طريق تملكه الأرض للبناء والاستكشاف. فى كلمة واحدة: لقد جعل مصر البلد المنعزل فى اتصال مع التقدم الذى تمثله أوروبا.
الإنجليزية هى السبب
ولم يغفل نوبار باشا فى مذاكرته ذكر سبب إسناد المناصب إليه والرتب الكثيرة التى منحت له. وكان السبب بسيطا جدا وهو معرفته القليلة بالإنجليزية اللغة التى لم يكن أحد من معية محمد على يعرفها فضلا عن أنه سبقته سمعة أنه رجل مثقف وعالم، وبلغة الواثق من نفسه يقول نوبار: «لقد كان لاهتمامهم بى عند دخولى فى معية محمد على فائدة كبيرة على، لكن ألم أكن أستحق بالفعل هذا الاهتمام.. ألم أكن كاتبا وموظفا مثقفا.. ألم أكن أنا من فك لهم طلاسم خطاب دوق دى راجيز؟!». وللحقيقة كلمات الثقة النوبارية قريبة من الحقيقة، فمن يقرأ المذكرات يندهش من جمال أسلوبها، ولعل هذا جعل الدراسة السابقة للمذكرات تؤكد أن الأسلوب، الذى اتبعه نوبار باشا فى المذكرات السهل الممتنع، والثرى الشائق، وأنه اختار التعبير القصصى، وذلك باستحضار الأمثلة ونقل الحوارات.
التقرب من الوالى
فى فصله الثالث قال نوبار: «إنه بعد شهرين أو ثلاثة من دخولى فى ديوان محمد على، جاء إبراهيم باشا إلى الإسكندرية لقضاء الوقت وطلب من والده إلحاقى بخاصته». وتساءل نوبار: «لماذا إذن لم يصطحب إبراهيم باشا سكرتيره معه.. ولماذا طلبنى من والده؟ أعتقد أن إبراهيم علم بشكوك والده نحوه فأراد أن يزيح هذه الشكوك باستعارة رجل من خاصة والده وديوانه ليصبح شاهدا ومترجما لمحادثاته مع القناصل العموميين». وبذلك أصبح نوبار باشا قريبا من السلطة ليسجل لنا رأيه فى حادثة مشهورة فى تاريخ مصر، وهى توتر العلاقات بين محمد على وإبراهيم باشا، وتهديد محمد على بترك مصر والاعتكاف بالحجاز. وعن انطباعه نقرأ: «وفى الطريق قال لى دون أن أستطيع قراءة أى تعبيرات على وجهه وملامحه: إن والده اعتكف فى سراى محرم بك، ويهدد بترك مصر والذهاب إلى الحجاز.. وعند وصولنا إلى محرم بك رفض محمد على استقبال ابنه، فاتجهنا مباشرة إلى سراى رأس التين، حيث كان الوجهاء الذين يشاركون فى أعمال الاجتماع قد تجمعوا. وفى هذه الاثناء، علمت أن المجلس شعر بأنه قدم توصيات بخصوص الضرائب والإصلاح الإدارى أغضبت محمد على إلى أقصى درجة. وكان الحضور يتهامسون أن ابنته نازلى جلبت له بالأمس جارية من قصر الحريم ونظرا لصغر سنها أعطوا محمد على بعض المقويات كى يسترد صحته وشبابه.. وأخيرا قيل همسا بأنه ذهب للصيد وهو فى كامل نشاطه. وبكلام أكثر فصاحة تساءل نوبار: «هل كانت نية محمد على التى أعلنها بالاعتكاف فى الحجاز خدعة.. أم كانت حقيقة؟ ماذا يمكن أن يخفى هذا الإصرار من جانب رجل يحسب دائما حسابا لكل ما يفعله ويعرف دائما ماذا يريد؟ انعقدت الجلسة وكتب خطاب لمحمد على يحوى تساؤلا عما إذا كان يمكنه أن يفصح عن رغباته التى لن تجد سوى العبيد المطيعين لها.. لكن بعد قليل من الوقت عاد صبحى بالخطاب فلقد عرفت الرسالة وحاملها وعلق الوالى على هذا الخطاب بأن هناك فى هذا المجلس شخصا غادرا وآخر طامعا، وأراد من المجلس تسليمهما له». وبمزيد من الأسئلة يسأل: «... من كان يقصد بهذا القول؟ كل فرد فى هذا المجلس كان يعرف من هما المقصودان، ولكنه لم يكن يجرؤ على القول بأن الغدار كان إبراهيم، أما الطماع فكان شريف باشا. لكن لماذا لا يتم الإعلان عنهما لماذا أراد محمد على أن يقوم المجلس بتسليمهما له؟ أليس هو الحاكم.. أليس النفوذ كله له؟». بعد ذلك ترك أعضاء المجلس الإسكندرية واحدا تلو الآخر. وبعد عدة أيام علم نوبار أن محمد على استقبل أعضاء المجلس كلا على حدة وأن الأمور عادت إلى طبيعتها. ولكن لم يسكت نوبار باشا فهو كشخص يحب الفضول سأل قبطان بك مملوك إبراهيم وقائد السفن الحربية فى أثناء الحملة على الشام كيف سارت المقابلة الأولى بين محمد على وابنه بعد هذه الأحداث. وكان سؤال نوبار باشا بعد مرور ثلاث سنوات. وقص عليه قبطان بك أنه عند العودة إلى القاهرة تلقى إبراهيم خطابا من محمد على مليئا بالعتاب، وأنه أمضى اليوم كله نائما واضعا الخطاب على بطنه، قائلا: «أريد أن يُدفن هذا الخطاب معى، وذلك من شدة الاتهامات وقسوة العتاب الظالم الذى لا أساس له. إنه يحمل لى اتهامات أريد أن أحملها معى إلى القبر».
إبراهيم باشا العبقرى
كان نوبار باشا معجبا بشدة بإبراهيم باشا فهو يراه مثال الرزانة والانسجام فى الملكات والقدرات، وبتعبير أقوى وأدق: كان إبراهيم يصل إلى حدود العبقرية. يذكر نوبار: «كان يهتم بكل شىء، كان مغرما بأرضه وكان بحق فخورا بالإصلاحات الملموسة والمهمة التى أدخلها ــ ويجب أن نرد له هذا الحق ــ فى أبعادياته التى كانت تقع معظم أراضيها فى مناطق زراعة الأرز. ورأيت يوما خطابا يثير الفضول فى أثناء إقامتنا فى إيطاليا كان إبراهيم يرسله إلى ناظر دائرته.. خطابا ظلت سطوره محفورة فى ذاكرتى إلى الآن يقول فيه: «كتب لى أحمد القاضى ناظر زراعة شباسات بأنه فى هذا العام زرع الأرز فى مساحة تزيد 800 فدان عن المساحة التى زرعها المرحوم حسن أفندى «الناظر السابق للزراعة هناك»، ولذلك فإننى أنوى كتابة نسخة أخرى من هذا الخطاب لأعلقها على صدرك كى تفضح كرامتك أمام زملائك بسبب إهمالك، وهذا من شأنه أن يعلمك فى المرة القادمة مراقبة وإدارة الأنفار، الذين تحت يديك بشكل أفضل. أما الخطاب الأصلى فإنى أنوى أن أعلقه على شاهد ضريح المرحوم حسن قائلا له: «أترى ماذا يفعل خلفك أحمد القاضى.. وسوف أترك هذا الخطاب معلقا على قبره حتى يحمل معه عاره إلى العالم الآخر كما حمله فى هذا العالم». وتساءل نوبار: «أكان فرعون يستطيع فى مثل هذه الظروف أن يعبر عن نفسه بشكل أفضل من هذا؟» فيجيب: لكن إبراهيم كان يعرف كيف يتحدث إلى كل شخص بلغته. فقد كان هو ووالده من العارفين بالرجال. ويكشف لنا نوبار فى نهاية مذكراته عن حكم محمد على وإبراهيم باشا لحظات محمد على الأخيرة ووفاة ابنه إبراهيم باشا: فى أثناء اللامبالاة، التى لازمت إبراهيم إلى قبره، كان أبوه كلما أفاق للحظات من غفلته الذهنية المستمرة يطوف شوارع القاهرة فى حراسة مماليكه وسط جموع الناس، التى كانت تنظر إليه باحترام ويرون فيه أحد المجاذيب «ويعنى الشخص الملهم من عند الله». وعندما أخبر بوفاة ابنه رد قائلا: «كنت أعرف لقد حبسنى.. كان قاسيا معى كما كان مع الجميع.. لقد عاقبه الله وأماته، لكنى أجد نفسى لكونى أباه من الواجب أن أترحم عليه وأدعو له الله». وعاش محمد بعد هذه الكلمات لعد أشهر تطارده دون هوادة فكرة أنه ما زال محبوسا. ويعود نوبار فيقول: «كان خوفو قد سبق ولجأ للعمل الإجبارى من أجل بناء الهرم الأكبر، الذى يحمل اسمه، وكان مقررا أن يكون قبرا له، لكن هيرودوت ذكر أن الأجيال، التى جاءت بعده لعنت ذكراه وأن أصداء أعماله البائسة كانت تتردد إلى الوقت الذى زار فيه مصر. بينما ستظل ذكرى محمد على خالدة ومقدسة متساوية بذلك فى وجدان الناس بذكرى الأولياء الصالحين. صحيح أن هذا التخليد لذكراه شىء عادل، لأن هذا الوالى الكبير سيطر على النيل الجامح، وأعطى للناس أسباب غناها، فحول مصر من بلد زراعى فقير إلى بلد يمتلك زراعة غنية، وإن كان مع كل هذه الوفرة ظل الفلاح بائسا، فإن الفلاح نفسه يعرف أن كل هذا سببه تناسى البعض لتقاليد الفلاح وأسلوب حياته البائسة، التى كان عليها أيضا فى العهد السابق».
انتهي الجزء الاول .....ويتبع الجزء الثاني ....
فى الحلقة الأولى لمذكرات نوبار باشا، أول رئيس لوزراء مصر، عرضنا ما يخص محمد على وإبراهيم باشا، وقد مدح نوبار محمد على، بقوله: إن ذكراه خالدة ومقدسة متساوية بذلك فى وجدان الناس بذكرى الأولياء الصالحين، ولخص رأيه فى إبراهيم بأنه مثال الرزانة والانسجام فى الملكات والقدرات، وبتعبير أقوى وأدق: كان إبراهيم يصل إلى حدود العبقرية، حسب رأى نوبار باشا.
واليوم، نعرض الحلقة الثانية التى تدور حول عباس وسعيد، على أن نقدم فى الحلقة الثالثة والأخيرة مذكرات نوبار باشا عن الخديو إسماعيل مع طرح سؤال مهم جاء فى الدراسة التى سبقت المذكرات: هل كان نوبار ذلك الرجل الذى أحب مصر وكان يعمل على مصلحتها؟، وهل هذه الصورة الوردية عنه التى رسمتها مذكراته قد اسُتخدمت فيها اللمسات الناعمة؟
بدأ نوبار باشا قسمه الثانى بالحديث عن عباس، ولكن قبل أن نعرف رأى نوبار فى عباس أقتطف رأى الدكتورة لطيفة سالم المذكور ضمن دراستها عن المذكرات، حيث تقول: «ومنذ البداية، فإنه يمكن الحكم على صاحب المذكرات من خلال ذلك الخط الذى التزم به فى أسلوب تعامله مع الولاة بما ينم عن فطنة ملحوظة؛ فهو يعى تماما متى يكون قريبا ومتى يبعد، وكيف يكتسب ثقة المتضادين، وقد جرى العرف على أن الحاكم الشرقى غالبا ما يستغنى عن مجموعة العاملين مع سلفه، وخصوصا إذا كان العداء يجمعه به؛ وهذا ما حدث مع عباس الأول «1848-1854». ولكن الأمر اختلف مع نوبار الذى تمكن من إبهار هذا الوالى برغم يقينه من أنه رجل عمه». وتضيف: «ومما يُسجل أن نوبار من القليلين الذين سجلوا إيجابيات هذا الوالى».
الوالى المنعزل
ونجىء لمذكرات نوبار ــ التى تشمل 675 صفحة فضلا عن أكثر من 60 صفحة تحتوى على دراسات وملاحظات وملاحق للمذكرات ــ عن عباس ثم نختتم الحلقة بمذاكرته عن سعيد. بدأ نوبار قائلا: «بعد عدة أيام من وفاة إبراهيم عاد عباس من مكة، فى يوم الوفاة اجتمع كبار موظفى الدولة فى حجرتى وكلفوا مارى بك «Marie» قارع الطبول فى الجيش الفرنسى سابقا وأصبح فيما بعد قائمقام فى أثناء حروب الحجاز بأن يحمل إليه الخبر. رحل عباس من مكة فى الحال بينما تضاربت الآراء حوله فى مصر. كان الأوروبيون يعتبرونه رجلا متعصبا ورجعيا، وأستطيع القول بأن المصطلحين اليوم كما فى ذلك الحين معناهما واحد عند الأوروبيين. أما فى أوساط الموظفين فكان خليفة إبراهيم بالنسبة لهم شخصا لا يجيد فن التعامل مع الأزمات، وشبهوه بشخص لا يعرف كيف يتراجع فى الوقت المناسب عن ارتكاب جريمة.
وقد كانوا يعرفون أنه ينهمك جدا فى الأمور الإدارية، لكنه يحب العزلة ولا يشعر بالسرور إلا فى محيط أسرته. كان معروفا بين الكبار بأنه كسول. ولذلك كانوا يجدون صعوبة فى التأقلم مع فكرة أنه أصبح سيدا عليهم بعد أن عرفوه طفلا ثم مراهقا.
ويحلل نوبار الموقف، إذ رأى أنه فى ظل هذه الظروف كان من الطبيعى أن تصبح فكرة الطاعة العمياء فى نظرهم على الأقل غريبة. ويضيف فى هذه النقطة قائلا: «إنى مقتنع بأنهم إذا وجدوا من بينهم رجلا أو رجلين من ذوى الشخصية الذين لديهم القدرة على أخذ المبادرة فإنى مقتنع بأنهم سوف يحاولون السيطرة على الوالى الجديد أو توجيه وإيجاد قوة تكون بمثابة رد فعل لقوة السلطة المطلقة التى يتمتع بها الحاكم. لكنهم كانوا جميعا من حيث القدرة على اتخاذ المبادرة وقوة الشخصية أصفارا وعاجزين تماما. لكن، هل يمكن أن يكون الوضع غير ذلك؟ ففى خلال فترة عملهم الطويلة: هل كان لديهم فكرة واحدة عبروا بها عن شخصيتهم؟ ألم يظلوا دائما الأدوات القادرة فقط، إلى حد ما، على تنفيذ وأداء مهام الوظيفة؟ دائما منكسرون فى يدى سيد كان يفكر ويتصرف بالنيابة عنهم؟».
والسؤال الذى يطرح نفسه بعد قراءة تلك الفقرة من المذكرات: وهل كان نوبار باشا مختلفا عن هؤلاء غير القادرين أن يعبروا عن شخصيتهم؟ الإجابة تجىء على لسان الدكتورة لطيفة سالم التى أكدت أنه كان لوجود نوبار بالمعية أهمية بالغة، بالإضافة إلى شخصيته القوية، إذ تمتع بقدرة فائقة فى الإصرار على قضية يكون متحمسا لها، لا يتراجع إلا نادرا وأمام ظروف صعبة، حيث إن التصميم من صفاته. وتوضح أن ذلك كان قاسما مشتركا فى مشروعات كبيرة نفذت فى مصر مثل مشروع سكة الحديد الذى أيده وشجع عباس الأول على قبوله. وتدلل د. لطيفة على كلامها فتقول: «وفى عهد الأخير ــ أى عباس الأول ــ صعد نجم نوبار فى سماء العلاقات الخارجية سواء مع الدولة العثمانية صاحبة الموقف المضاد من الأرمن، أو الدول الأوروبية وبخاصة بريطانيا. وعندما اختلف مع الوالى انسحب من خدمته، وكان ذلك فى حد ذاته تحديا كبيرا منه، لأن الجميع يعتبرون أنفسهم «عبيد أفندينا».. ومع هذا فقد استدعاه عباس وولاه مركزا ــ وكيلا ــ فى فيينا»
مؤامرة على الوالى
ونرجع مرة أخرى إلى المذكرات ونقول: لعل طرح نوبار الواضح فى المذكرات لمن هم حول عباس جعل الوالى مقتنعا بوجود مؤامرة، أو على الأقل اتفاق فيما بين كبار رجال الدولة على وضعه تحت السيطرة. وعن هذه المؤامرة يقول نوبار: «وفى رأيى الشخصى لم أصدق مثل هذا الكلام. من الممكن أنهم تبادلوا الآراء والمخاوف أو الآمال.. هذا ممكن، وفكروا فى تطبيق نظام للأمور مشابه لما هو قائم فى القسطنطينية، حيث كانت السلطة المطلقة للسلطان لا تمنع من مناقشة كل أمور الدولة واتخاذ القرار بشأنها من خلال الباب العالى. أستطيع أن أتقبل مثل هذا التفكير والتحليل للأمور لكن مع التحفظ على أن هذه الأفكار ظلت فى مرحلة التكون. وباختصار: أنا مقتنع بأنه من جانبهم كانت هناك نية للاستقلال، لكن وبسبب شخصياتهم الضعيفة فإنى أرفض تماما أن أصدق بوجود خطة حقيقية أو مؤامرة تم إيقافها».
ويزيد نوبار فى شرح تلك النقطة ويوضح أن عباس كان بطبيعته لا يثق بأحد، شكاكا بطبعه، متسائلا: «ومنْ لم يكن هكذا؟! ألم يكن إبراهيم يعيش على الشك دائما وأبدا؟ ألم يظل محمد على نفسه الذى سيطر على الجميع بذكائه أسير هذا الإحساس لآخر يوم فى حياته؟ وهل كان يستطيع حتى وهو فى حالة نصف الجنون التى كانت تنتابه البقاء ولو للحظة دون سيفه وحاجبه؟!».
ويبدو أن ذاكرة نوبار باشا كانت قوية وشبابية بشأن كل ما يخص ميول وأفكار وتحركات عباس إذ يصف ميوله قائلا: «بالإضافة إلى هذا الاتجاه الفطرى والطبيعى للشك كانت ميول عباس إلى التسلط عظيمة إلى أقصى حد، ولديه إحساس غريزى يلزمه بالارتباط برجاله المقربين الذين اعتبرهم كذلك من ذويه.. هكذا يمكننا أن نتبين وبكل سهولة أن زمن استخدام العنف بشكل جلى وواضح قد ولى، لكن مع الأخذ فى الحسبان رغبة عباس المطلقة فى إبعاد رجال الحكم السابق عن البلاد مهما كان الثمن».
أمران فى تحول مصر
ويشير نوبار إلى أنه فى الوقت الذى كوّن فيه الأوروبيون آراءهم من ناحية ومشاعر كبار رجال الدولة من ناحية أخرى تجاه عباس، حدث أمران كان لهما الأثر فى تحول مصر: الأول وهو إنشاء خط السكك الحديدية، والثانى هو توزيع الأراضى على الفلاحين، تلك الأراضى التى هجروها لسبب أو لآخر أو تم ترحيلهم منها لإقامة إقطاعيات يملكها رجال الدولة.
ثم تحدث نوبار فى مذكراته عن أمر لا يقل أهمية عن الأمرين اللذين كان لهما الأثر فى تحول مصر، وهو موضوع الاتصالات بين أوروبا والشرق، حيث لا أحد يجهل ــ كما يقول نوبار باشا ــ أنه إلى عام 1834 كانت الاتصالات بين أوروبا والشرق الأقصى تتم عن طريق رأس الرجاء الصالح فقط، وفى هذه الفترة قام النقيب واجهون وهو أحد الضباط العاملين فى جيش الهند بقطع المسافة ما بين السويس والإسكندرية عدة مرات بالمراكب وعلى ظهر الجمال، كما سافر بين عدن والسويس على متن السفن العربية فى البحر الأحمر واقتنع بضرور تأسيس خدمة بريدية عبر مصر تضمن الاتصال المباشر بين بريطانيا والهند.
وكانت النتيجة قيام شركة إنجليزية باسم شركة «بينينسولير» التى أنشأت خطا ملاحيا بين ميناءى ساوثها مبون الإنجليزية والإسكندرية بالتنسيق مع سفن تقوم بالرحلة ما بين السويس وبومباى. وقد كانت لهذه الشركة الفضل فى عودة التجارة إلى الطريق القديمة المستخدمة منذ عهد البطالمة والرومان.
الخوف من السكك الحديدية
وعن السكك الحديدية يذكر نوبار أن أوروبا فى عام 1849 قد أصيبت بحمى السكك الحديدية. وكان من الطبيعى إذن لتسهيل نقل البضائع عن طريق مصر أن تنشأ فكرة الربط بين السويس والإسكندرية عن طريق خط سكك حديدية وتتبلور فى عقول البعض. أما لبقية الأحداث، فلم تكن الفكرة جديدة. ففى أواخر عهد محمد على كان قد بدأ بالفعل الحديث بقوة عن مشروع للسكك الحديدية، بل أيضا كان الكلام قد بدأ عن قناة السويس. ويشرح نوبار أكثر أنه تذكر بهذا الخصوص أن مديرى الشركة الشرقية تقدموا بعد استشارة محمد على أو بعد تفاهم فيما بينهم: بمذكرة تولى نوبار ترجمتها كانت عن قناة السويس والمزايا المنتظرة عند افتتاحها التى تعود على التجارة بين أوروبا والشرق الأقصى، ويوضح: «لكن بعد ذلك قالوا لى، بل وقرأت فى مكان ما أن محمد على رفض فكرة القناة، لأنها ستكون مصدرا للخطر على أمن مصر وبقائها.
ويكمل نوبار: «وفى أثناء إقامتنا فى القسطنطينية مع عباس عام 1848 اتجهت النوايا إلى تأسيس خط للسكك الحديدية فى مصر، وكانت هذه إحدى النقاط التى أصبحت موضوع مشاورات بين رئيس وزراء تركيا وعباس. وحذر الصدر الأعظم عباس من أى تفكير فى خط حديدى. وأجهل بناء على أى استنتاج توصل الصدر الأعظم إلى أن أن وجود سكك الحديد معناه تسليم مصر إلى الاحتلال البريطانى.
أستطيع أن أفهم تحذير رشيد باشا له من إنشاء السكك الحديدية؛ لأنه كان يرى أن نمو حجم الترانزيت والعلاقات المصرية الأوروبية هى بداية لدخول أفكار جديدة إلى البلاد.. من ناحية أخرى فهى مجال لتدخل القوى العظمى فى شئون تركيا وهو التدخل الذى ازداد يوما بعد يوم بعد حروب محمد على وإعلان خط كلخانة فبدأ يُخيف الباب العالى بشكل جدى. كان رشيد إذن يمكن أن يكون على حق لأن أفكار ومعتقداته الإسلامية حول العزلة عن الغرب تجعله بالتأكيد على حق فى مثل هذا التفكير.
ثم يتطرق نوبار إلى تلخيص الموقف عند رحيله من القسطنطينية كالتالى: تقارب بين عباس والوزراء الأتراك مهد ليكونوا وسيلته للتخلص من أى شخص يُسبب له المتاعب. كانت الفكرة التى تدور فى ذهن عباس هى استغلال هذا التقارب ستارا يتخلص من ورائه من أشخاص آخرين غير سامى باشا ومن كل الذين كان يعتقد عداءهم سواء كان محقا أو مخطئا. وضع عباس داخل هذا التصنيف أعضاء عائلته الخاصة لا سيما من لا يُظهر منهم فروض الولاء والطاعة بشكل كامل كما كان يفعل مماليكه «الخاصة»، فى حين لم يكن هذا موقفه من أسرته هو.
غريزة السيد الكبير
من يقرأ المذكرات يجد أن صاحبها كان هدفه إظهار الوجه الآخر لولاة مصر، فهو يكرر أكثر من مرة أن عباس كانت لديه غريزة السيد الكبير حيث يقول: «إن الاحتكار الذى أوجده محمد على أنهار بسبب هذه الاتفاقيات التجارية، لكنها ظلت لفترة تقاوم حتى بدأت بالتدريج فى الاندثار. فى المقابل، ترك عباس الفلاح حرا يبيع منتجات أرضه كما يحلو له، وكانت هذه هى نقطة الانطلاق لنهاية النظام الاقتصادى الذى كان قائما فى مصر على أن تجمع الحكومة فى يدها كل الأمور التى تخص التجارة والصناعة فى البلاد. لقد استطاع عباس بما لديه من غريزة السيد الكبير أن يُكوّن لنفسه رؤية صائبة ومعرفة تامة بتاريخ حكم جده وتبين مساوئ النظام الذى كان يسير عليه، لكن لم يكن مقدرا لهذا النظام أن ينتهى بشكل كامل إلا تحت حكم سعيد باشا خليفة عباس. لقد تنبهت إلى أننى عدت إلى الوراء وأننى أسُتدرجت إلى الحديث من جديد عن محمد على وأفكاره بخصوص التجارة والصناعة، وهى أفكار كانت تنتهجها عقلية غير مثقفة أوجدت الاحتكار والسيطرة على كل قطعة من قطع المصانع فى مصر. وفى الحقيقة لم تكن هذه الأفكار نتاج طريقة تفكير محمد على وحدها وإنما أيضا نتيجة الوسط الذى نشأ وعاش فيه حيث كان نظام الاحتكار هو السائد والمعمول به فى كل أنحاء الإمبراطورية العثمانية.
وخلال المذكرات نعرف أن الباب العالى لم يترك المساحة الكافية لعباس بل كان يريد التدخل المستمر بداعٍ أو بدون، خاصة فى محاولة إنشاء السكك الحديدية فضلا عن عداء فرنسا لعباس ولمشروع خط سكة الحديد الذى لم يعجبها إلى حد كبير مما جعل السيد «باروش» أحد وزراء الأمير الحاكم يقول: «إن خطكم الحديدى حربة موجهة لترشق بقسوة فى صدر فرنسا»، بل زاد الأمر: «سوف تتبدل كل محطة للقطارات شيئا فشيئا لتصبح مستعمرة إنجليزية».
ويختم نوبار باشا مذكراته حول عباس فيقول: «إن ذكريات عصر عباس دفعتنى إلى أن أتخطى حدودى التى حددتها لنفسى؛ لأن حكمه كان مأساويا، ولم يكن يمثل بالفعل واحدة من الخطوات الرئيسية فى تاريخ البلاد وتحول مصر فحسب، وإنما عرف أيضا بشكل سيئ أو ضئيل. وفُهمت شخصية عباس بشكل خاطئ لدى الأجيال الحالية. لقد تخلى التاريخ عن عباس تاركا فى الظل الحديث عن قدراته ومميزاته الرفيعة كإدارى له مبادئ ونظام فى الحكم والاقتصاد.. وفى غمار ذكرياتى أننى سعيد بأننى أرد لذكراه هذه الشهادة العادلة التى يستحقها وإن كانت متأخرة.. فقد كان عباس بحق يمثل آخر الولاة حسب مفهوم السلطة المطلقة».
سعيد العاطفى
بعد ذلك بدأت ذاكرة نوبار باشا فى تسطير عهد سعيد الذى كان لا يرتاح له نوبار ويحاول مقارنته دائما بمن سبقوه، حيث يقول: «كانت مهمتى سهلة نسبيا عندما كنت أُخط انطباعاتى عن زمن الولاة الأوائل، لأن عملهم القوى والذكى لتطوير مصر تمت إدارته بالفعل بطريقة متطورة ومستمرة، لكن كل شىء اتخذ شكلا جديدا منذ الأيام الأولى لتولى سعيد الحكم، كل شىء سار سريعا وبشكل مفاجئ وكأننا نجلس فى مسرح نشاهد مشهدا يتغير داخل رواية خالية. كان الولاة يستلهمون ما هو مفيد من العنصر الأوروبى ولكنهم فى الوقت نفسه سيطروا عليه وأخضعوه لإرادتهم وظل الوالى هو السيد المطاع. لكن مع مرور الوقت غزت أوروبا مصر، وكان هذا الغزو يستمد قوته أحيانا من أذناب الحاشية الملتفة حول أمير شاب مفتون بالسلطة عاطفى غير مدرك، ولا يعى أن هذه الحاشية تدفعه وتُسيره وتُسيطر عليه، وقد اعتقد فى البداية أنه هو الذى يقودها ويسيطر عليها. وهكذا بدأت فصول الرواية الفوضوية أولا فى بلاط الوالى، ثم امتدت بقوة إلى إدارات الحكومة حتى وصلت بشكل أقل قوة لتنتشر بين صفوف الشعب. ومن الصعب أن أصف مدى ما حدث من تضارب فى الأفكار نتيجة هذه الفوضى، لكننى ربما أستطيع أن أبين لكم الأسباب التى أدت إلى هذا الوضع الذى كان أساسه شخصية الوالى الجديد وإن لم يكن هذا هو السبب الوحيد، لكنه كان شديد السطحية ويفتقر تماما إلى احترام الذات كليا محبا للمظاهر البراقة».
إذن نعرف أن نوبار باشا لم يكن يحترم سعيد بل رأه «شابا مفتونا بالسلطة عاطفيا غير مدرك». بل زاد فى القول: «مسكين سعيد؛ لولا المكابرة وافتقاده للحكمة، ولولا استدراجه إلى تغيير كل شىء والسير عكس الطريق الذى كان يسير فيه عباس ولو كان بكل ما أوتى من روح ونبل وتسامح قد احترم نفسه قليلا، لكانت فترة حكمه ستكون فى كل الأحوال خصبة لمصر تماما مثل خصوبة طمى النيل المبارك. لكننى وأنا أكتب هذه السطور أرى أمامى نهايته البائسة وقلبى يعتصر ألما لهذه الذكرى»
اكتتاب قناة السويس
وحسب كلمات نوبار لا نستغرب ونحن نقرأ فترة حكم سعيد التى شهدت تطورا هائلا لأحوال مصر والمصريين، ومنها يذكر نوبار اكتتاب قناة السويس: «مثل المسيو دى ليسبس عنصرا للقلق دفعته مصلحته بصفة عامة للسير فى هذا الطريق. فشركة قناة السويس لم تكن قد تكونت بعد، وكان لابد من توفير المال للقيام بالدراسات الأولية، كذلك القيام بالدعاية اللازمة لاجتذاب رأس المال اللازم لتنفيذ المشروع. تبرع سعيد بهذا المبلغ كما تبرع أيضا بالمبلغ اللازم ليكون رأسمال لتأسيس المشروع.. ولأن الصيد لا يكون ممكنا إلا فى المياه العكرة، فكان لابد من أن تقوم بعض الأيدى الخفية بالمساعدة على تعكير الماء بطريقة غير مباشرة ولكن فعالة، ولن أذكر سوى حدث واحد يبرهن على هذا، روى لى أحداثه القنصل العام الفرنسى بنفسه بعد مضى كثير من الأعوام، وهو كالآتى: طرح المسيو دى ليسبس أسهما للاكتتاب فى لندن وباريس وبرلين وفينا وفى بقية عواصم العالم، ولأن القناة مشروع عالمى فكان لابد من أن يكون الاكتتاب كذلك أيضا.
ومن مجموع مائتى مليون فرنك كانت مطلوبة لتنفيذ المشروع تم الحصول على مائة واثنى عشر مليون فرنك فقط وفشلت حملة الاكتتاب، لكن المسيو دى ليسبس أكد أنها تسير بشكل رائع وأعلن عن مسئوليته، وبمبادرة شخصية منه ودون استشارة الوالى أنه اكتتب مبلع الثمانية والثمانين مليون فرنك الباقية باسم سعيد ثم عاد إلى مصر سعيدا ومبتسما بما فعل،لأنه كما ذكر يتصرف بصفته وكيلا للوالى.
ويكمل نوبار قوله عن قناة السويس فيقول: «تم بذلك التوصل إلى تأسيس الشركة، لكن هل كان تأسيس الشركة قانونيا؟، بالتأكيد لا؛ لأن المسيو دى ليسبس بوصفه رئيسا لمجلس الإدارة والوالى بوصفه مساهما، لم يكن لهما حق التوقيع على اتفاقية تجعل من الحكومة المصرية مساهما بشكل لا يتفق مع اللوائح والقوانين والشرعية الدولية من أجل أن تدفع ثمن الأسهم. لكن منْ كان يهتم؟ فالوالى لم يكن يبحث إلا عن التخلص من مأزق دى ليسبس الذى لم يكن يبغى سوى المال لكى يمضى قدما فى المشروع.
الكل رئيس إلا أنا
وبذلك لم يؤيد نوبار باشا مشروع القناة ولا القائمين عليه وبالذات دى ليسبس، وعاب على سعيد اهتمامه بالجيش فقط. وفى الوقت نفسه انتقد سطوة الأجانب فى عهده. كما رصد نوبار مساوئ الامتيازات الاجنبية، خاصة الشق المتعلق بالقضاء القنصلى، وتلك الأحكام التى صدرت ضد الأهالى وكذلك الحكومة.
ويتضح من المذكرات أن نوبار باشا كان ضد السخرة ويعتبرها أمرا رهيبا، لذلك كان يرفضها بشدة، وهذا يظهر من خطابه إلى السيد روس كبير المهندسين الذى طلب من نوبار عمال السخرة لإصلاح عطل خط مزدوج أنشئ حديثا بين دمنهور وكفر الزيات، وجاء فى الخطاب: «لقد طلبتم منى أربعة ألاف رجل سخرة من أجل إصلاح الخط، وأنتم تعلمون تماما مشاعرى حيال طبيعة هذا النوع من العمل، لقد أصلح كل من السيد مايش والسيد جازاجاس الخط بمجرد الاستعانة بعمال الصيانة العاديين؛ لذا أرجو أن تعتبروا أنفسكم ليس أهلا للبقاء بعد ذلك فى خدمة الإدارة».
وعن ذات فترة توليه إدارة السكك الحديدية يوضح نوبار باشا: «كان كل واحد منهم يحسب نفسه الرئيس ويتصرف على هواه. كما أن الجالية الأوروبية المتشبعة بهذه المشاعر كانت تتخيل أن سكك الحديد مؤسسة تم إنشاؤها من أجلهم ومن أجل مصالحهم فقط. كان القليل منهم فقط يدفع ثمن كرسيه بل إن القناصل كانوا هم أول من لا يدفعون، وصاروا مثلا يحتذى به. وعلى رغم قلة الموارد حجزت لهم دواوين «كبائن القطارات» بأسمائهم. باختصار وكما كان الوالى يقول:«الكل فى سكك الحديد يأمر، الكل رئيس إلا أنا». وكان فى ذلك القول أمر إيجابى، على أى حال، حيث توصل على الأقل لمعرفة الموقف. لكن منْ المخطئ؟».
من يقرأ المذكرات يعرف أن المخطئ كان هو الوالى سعيد الذى توفى ودفن بطريقة لا تليق، يصف ذلك نوبار: «فى المساء قال لى الأطباء: إنه لم يعد هناك أى أمل.. وصعد أحد الأطباء إلى الوالى ثم نزل ليخبر زملاءه بحالة المريض التى كانت سكرات الموت قد بدأت تنتابه.. وبعد قليل أخبرونا أن سعيد لفظ أنفاسه الأخيرة فى يناير 1863. تجمع كل الموظفين وكتبوا تلغرافا لإسماعيل الذى كان حينذاك فى القاهرة يسألونه التعليمات ويخبرونه بالحدث. أجاب الوالى الجديد بدعوتهم جميعا للحضور إلى القاهرة. تهافت الجميع على أول قطار يغادر إلى القاهرة وهرعوا للذهاب دون ترك أى أوامر أو اتخاذ أى إجراءات بخصوص مراسم الدفن. ولا أعلم كيف تم الدفن؛ لأن الجميع سافر إلى القاهرة، وعلمت بعد ذلك من محافظ الإسكندرية أنه كان على رأس الجنازة التى لم يشترك فيها أحد الموظفين. لقد صاحب النسيان واللامبالاة الكاملة سعيدا إلى القبر، وعلمت أيضا فيما بعد أن جثمانه دفن فى مسجد النبى دانيال».
وبذلك يختتم نوبار حديثه عن سعيد ليبدأ مذكراته عن الخديو إسماعيل
يتبع الجزء الثالث والأخير ...
بعد أن عرضنا فى الحلقتين السابقتين مذكرات نوبار باشا أول رئيس وزراء لمصر عن محمد على وإبراهيم باشا وعباس وسعيد، وأصابنا الانبهار والدهشة من مستوى تلك المذكرات ــ خاصة الترجمة العربية الكاملة للمذكرات الصادرة حديثا عن دار الشروق ــ التى سطرها رجل سياسى وثقافى من الدرجة الأولى، نجىء اليوم لعرض مذكراته عن الخديو إسماعيل الذى أخذ النصيب الأكبر من المذكرات، ففترة إسماعيل هى الجزء الحقيقى والأهم من المذكرات، وهو ما أكده المفكر الكبير ميريت بطرس غالى فى ملاحظاته على المذكرات، وهو ما أكدته أيضا الدكتورة لطيفة سالم فى دراستها «استدعاء الماضى»، إذ تقول: «إن إسماعيل يستحوذ على خمسة وعشرين فصلا.. وبديهى أن ذلك يرجع إلى عدة أسباب، منها أن تلك الفترة قد تم فيها صياغة المشروع التحديثى، وأن نوبار قد بلغ مرحلة من النضج والخبرة مما كان له الأثر فى إسهامه بدور فعال فى توجيه الأحداث».
ولابد لنا أن نعرف أن وضع نوبار مع إسماعيل (1863ــ 1879) لم يختل؛ فمنذ البداية راح الوالى يستشيره، ليس هذا فقط، وإنما رأى فيه المعبر عن أفكاره، والأداة المنفذة لها. ومن هنا وجد صاحب المذكرات ــ حسب دراسة «استدعاء الماضى» ــ أن الفرصة قد حانت ليترجم الإصلاح المنشود كما يراه. ومضت مهامه الصعبة تأخذ سبلها. فعندما تعقدت مسألة قناة السويس، حاول معالجتها، لكنه لم يحصد النقاط لصالحه كما أراد، وحين صدر التحكيم وجده ظالما وانتقده. وسعى فى الحصول على المميزات التى ترفع من شأن مصر، وتمثلت فى الفرمانات المتتالية لإسماعيل. وأقلقته مسألة السخرة، وتأزم من استخدامها فى كثير من الأعمال، ولمسها عن قرب عندما تولى إدارة سكة الحديد، حيث عايش بؤس الفلاحين الذى سُخروا وتركوا زراعاتهم وهجروها، وكانوا فى الوقت نفسه مطالبين بدفع الضرائب. وأترك الآن المساحة لنوبار باشا ليحدثنا عن الخديو إسماعيل المثير للجدل والحيرة، على أن نطرح بعض الأسئلة الملحة حول نوبار باشا ومذكراته فى نهاية هذه الحلقة.
إسماعيل البقال
بدأ نوبار مذكراته عن الخديو إسماعيل بقوله: «كنت بالكاد أعرف الوالى الجديد لأن العلاقة كانت نادرة بين الأمراء والموظفين، حيث كان هناك كثير من التحفظ فى العلاقات ما بين الطرفين. ويمكننى القول: إنه كان من الضرورى أن يكون الأمر كذلك. كنا نعرف فقط أن إسماعيل يقتصر اهتمامه الجاد على أراضيه ومزارعه التى اتسعت مساحتها وامتدت. كما اقتصرت علاقاته مع الأوروبيين على بيع منتجات أراضيه لهم وتبادل بعض الأعمال معهم، وكان الجميع يتحدثون عما يسود دائرته من نظام. صحيح أن «سعيد» كان يعامل إسماعيل كأنه بقال وكان يقول دائما: «سوف تفتقدوننى عندما يصبح واليا عليكم». لكن «سعيد» أيضا كانت له طرائف كثيرة منها أنه كان لا يبالى بالمالية أو الاقتصاد فى الدولة ويرى أنها عمل لا يليق بأمير بل عمل يصلح فقط من أجل الموظفين. كان من الطبيعى إذن أن يتفوه بمثل هذه الكلمات التى تعبر عن الازدراء عندما يتحدث عن هؤلاء الذين كان من الممكن أن تكون لديهم مثل هذه الاهتمامات التى كانت مصر بالتحديد فى حاجة إليها.
عندما سافرت إلى القاهرة لتقديم فروض الولاء والطاعة للوالى الجديد مساء نفس اليوم الذى تسلم فيه السلطة، صرح لى إسماعيل عن فكرة كانت تراوده منذ عهد سعيد ألا وهى تقسيم الأزبكية وبيعها. كانت الأزبكية حديقة كبيرة فى القاهرة أصلها بحيرة قديمة تم تجفيفها وحمايتها من مياه الفيضان، وكان تصطف على جانبيها الأشجار الرائعة التى زرعها محمد على. كانت جموع غفيرة من الشعب تتجمع فى هذه الحديقة مساء كل يوم لتتنزه وتشرب القهوة أو البوظة على أنغام الموسيقى الشرقية التى قد تكون بالنسبة للأذن الأوروبية نشازا لكنها مع تأثير القهوة والبوظة والأشجار تحت سماء القاهرة بنجومها كانت تعكس دائما الجو الشرقى فى مشهد حالم يأخذ بالألباب بعيدا عن الواقع، وكلها أمور لا يستطيع أن يفهمها سوى هؤلاء الذين يحسون مثل هذا البهاء والسحر.
أمر غريب
ولأن نوبار ــ الذى بدا واضحا ثقل خبرته ونضجه السياسى أيام إسماعيل ــ كان يضع أمنيات وتصرفات إسماعيل تحت المنظار دائما، لذلك نلاحظ قوة التعليقات ودوام التساؤل حول الخديو، وهذا يتضح فى تعليقات نوبار على اقتراح إسماعيل بيع حديقة الأزبكية، إذ يقول: «بدت لى فكرة قطع الأشجار التى زرعها محمد على وراقب نموها بكل حب لتحل محلها العمائر والمنازل القبيحة من أجل جمع المال وهذا كان أمرا غريبا لم يكن من الممكن توقعه. لم أرد على إسماعيل بشىء، لكننى لم أستطع أن أمنع نفسى من التساؤل: هل كان من حقه أن يقسم ويعرض للبيع حديقة عامة ومكانا للترويح عن شعب بأكمله؟ حقيقى لم يكن فى نفسى شىء أقوله، لكن أصحاب المنازل التى كانت تحيط بالحديقة ألم يكن من حقهم فى هذه الحالة أن يشكوا ويطالبوا بالتعويضات ضد هذا الإجراء الذى من شأنه أن يضيع قيمة منازلهم التى تطل على الحديقة؟ وعلى الرغم من أنه لم يكن قد مضى على وصول إسماعيل إلى الحكم عدة ساعات فقط، فإنه بدا لى أنه كان مشغولا بعدة أمور أخرى».
الوظيفة أفضل من الأرض
عن تلك الأمور الأخرى يذكر نوبار أن هذه الأمور التى شغلت إسماعيل كانت تتعلق بحالة الموظفين الذين نالوا مخصصات من الأراضى بدلا من المعاش. ويستفيض نوبار حول هذه النقطة فيؤكد: «كان إسماعيل يجهل أننى كنت من أشار بهذه الفكرة على سعيد. كان معظم الموظفين سعداء بوضعهم الجديد، فبدلا من معاش كان يصرف لهم بصفة غير منتظمة، أصبحت لديهم أراضٍ بإمكانهم التعيش منها. صحيح أن بعضا منهم كان غير مستريح لهذا القرار؛ لأن الأرض التى خُصصت له بعد التقسيم لم تكن تربتها جيدة، إلا أن هذا الأمر كان ينطبق على قلة منهم. تحدث إسماعيل معى عن الموظفين جميعا بوصفهم ضحايا قرار فردى، وقال لى إنه ينوى تصحيح هذا الظلم الواقع عليهم بشكل نهائى بقرار إعادتهم جميعا إلى الخدمة وإعطائهم وظائف فى الإدارات، وبالتالى وفى ظل هذه القرارات، كان يجب إعادة الأراضى التى تملكوها إلى الحكومة. اعتقدت فى البداية ومن الطريقة التى عرض بها المسألة أنه مهتم بالموظفين بحق لأننى كنت قد عرفت المصريين بما فيه الكفاية كى أعلم أن جميع الموظفين ستكون فرحتهم كبيرة بعودتهم إلى الخدمة حتى لو كان هذا معناه ترك أراضيهم.
إن المصرى بطبعه موظفا، بل إن الوظيفة تمثل بالنسبة له السلطة، وكنت فى ذلك الوقت أعرف عضوا فى أسرة أحد العمد كان مستعدا أن يقبل بكل ترحاب أن يبادل مركزه كعمدة منتظر ويضحى بجزء من ثروته كى يشتغل فى خدمة الحكومة ويحصل على وظيفة حتى لو كانت صغيرة، لكنها ستسمح له بتوسيع نفوذه وتأثيره بشكل أوسع عما كانت عليه فى قريته الصغيرة. كنت حينذاك بعيدا جدا عن توقع ما كان إسماعيل يخفى من وراء هذا القرار. وسرعان ما تبينت كل شىء عندما بدأ التنفيذ بعد عودتنا من القسطنطينية حيث أعيد بعض الذين كانوا قد أحيلوا إلى المعاش أو على الأقل هؤلاء الذين كانوا يتمتعون برضاه وحمايته. أما باقى الموظفين فلم يتكلم أحد عنهم، وأعيدت الأراضى السيئة إلى الحكومة أما الجيد منها فتم ضمها إلى خاصة الوالى الذى وسع بذلك من ممتلكاته على حساب الموظفين.
تفاصيل مهمة
وحتى يوضح نوبار للقارئ السبب فى سرد كل هذه التفاصيل، يقول: «هذه التفاصيل لها أهميتها لمعرفة من الذى فى النهاية كان سببا فى تحول مصر، هل تصرفات محمد على وطريقته فى التفكير هما اللتان جلبتا على مصر هذا الخلط فى الأفكار ووضعتنا فى موقف نعانى الآن من أجل الخروج منه؟ أم شخصية سعيد وأسلوبه هما اللذان قلبا الأوضاع فى مصر رأسا على عقب؟ أم شخصية إسماعيل ونهجه فى الإدارة؟ إن هذه التفاصيل الصغيرة والأحداث التى بالنسبة لكثيرين تُعدّ لا أهمية لها مثلت بالنسبة لى المؤشر الذى يمزج بين الرجال وشخصياتهم وتساعد على فهم تكوينهم. لذا فإن مثل هذه الأحداث ظلت محفورة فى ذاكرتى بشكل أعمق من غيرها التى من الممكن أن تمثل أهمية أكبر نسبيا.
وفى سياق نفس هذا الترتيب فى الأفكار، تذكر نوبار حدثا خطر على باله، ففى اليوم التالى لولايته، أرسل إسماعيل فى طلبه، وكانت الساعة العاشرة والنصف صباحا وقال له: «فى خلال نصف ساعة، سوف أستقبل أعضاء الهيئة الدبلوماسية. أعد لى خطبة قصيرة. قال هذا وأخذنى من يدى بمودة زائدة وذهب بى إلى صالون صغير يمكن القول إنه كان حجرة للعمل لأن المكتب كان عليه حبار جف الحبر الذى بداخله. لم أكن قد تمكنت بعد من إدراك الموقف، حفل استقبال قنصلى؟ لم يكن هذا أبدا من تقاليدنا ولا عاداتنا. كان القناصل حتى فى عهد سعيد لا تتم دعوتهم فى شكل هيئة، بل كان قنصل يذهب إلى القصر بصفته الشخصية من أجل تقديم التهنئة للوالى».
ويضيف نوبار: «يبدو أن الأبهة وتقاليد المراسم المتبعة فى قصور أوروبا استهوت إسماعيل، كنت وسط كل هذه التساؤلات أنتظر منه أن يعطنى فكرة من أجل الخطبة أو حتى يشير إليها بوجه عام. ولا كلمة قالها لى ويبدو أنه كان بهذا يعنى أنه علىّ أنا كتابة الأفكار وصياغتها. فلم يكن يعرف إلا أن فى مثل هذه المناسبات كان حكام أوروبا يلقون بكلمة أمام الهيئات القنصلية وكان يريد أن يلقى هو أيضا خطبة خاصة به. كتبت ما خطر على بالى ولم تكن سوى تعبير عما يدور فى ذهنى دون أن أشعر تكلمت عن رغبته الأكيدة فى القضاء على السخرة وإعطاء العلاقات بين الأهالى والأجانب الأولوية وتوفير أرضية أكثر جاذبية لها. وإلى جانب هاتين الفكرتين كتبت بعض العبارات المعتادة عن الاقتصاد ونظام المصروفات، وكتبت عن فكرة جديدة كانت تتردد فى تلك الأيام بشأن إصدار قانون مدنى جديد، ثم كتبت عن تطوير التعليم. كنت أنتظر منه أن يستوضح عن بعض النقاط أو يسألنى أن أشرح له نقطة ما لكن لم يحدث شىء من هذا»
طريقة فى الإقناع
بعد ذلك ينتقل نوبار إلى نقاط أكثر سخونة ــ يكون فيها نوبار صانع الأحداث وليس مجرد سامع أو رائى ــ وهى التى تتعلق بتوجه إسماعيل من أجل الحصول على فرمان الوراثة على الولاية إلى القسطنطينية وذهاب نوبار لفرنسا لمنع اعتراضها على ذلك وبالفعل صدر الفرمان، فضلا عن مجهودات نوبار لموافقة الدول صاحبة الامتيازات على إقامة نظام قضائى مختلط، يقتصر نظره على القضايا المدنية والتجارية بين المصريين والأجانب وبين الأجانب المختلفى الجنسية، وتحدّدت نسبة القضاة الأجانب فى المحاكم. وحاول وقتها الخديو عرقلة المشروع، لكن نوبار أحبط تخطيطه، ومن الملفت للنظر ــ كما تذكر د.لطيفة سالم ــ أنه بعد أن كان يتخذ أى إجراء يخبر الخديو حتى يضعه أمام الأمر الواقع.
ثم تتحول الأحداث حتى يبعد الخديو إسماعيل نوبار عن مصر لأنه أصبح يشكل عقبة أمام الخديو، وطلب منه مغادرة مصر وألا يعود إليها، فسافر إلى فرنسا ومكث بها فترة، تضخمت خلالها الأزمة المالية ــ يذكر أنه تم بيع أسهم الخديو إسماعيل فى القناة للحكومة البريطانية ــ وتتابعت شدة الإجراءات الأجنبية، وعندئذ احتاج إسماعيل إلى نوبار، فطلب منع العودة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وتبنى صاحب المذكرات اقتراح تأسيس نظارة مسئولة، ولم يجد مانعا، كما تؤكد سالم، من أن ينضم إليها خبيران إنجليزى وفرنسى، وضغط على الخديو ليوافق؛ لأن معنى وجود مجلس نظار له اختصاصاته هو سحب سلطات منه. وكانت لنوبار طريقة إقناع فى تعامله مع الدولة العثمانية وولاة مصر، ارتكزت فى أحيان كثيرة على مس الوتر الإسلامى.. فمثلا يتحدث مع إسماعيل عن الشورى فى الإسلام، وأنه سوف يحكم مع مجلس النظار ومن خلاله، والنتيجة أنه شكّله فى 28 أغسطس 1878.
كانت دائما الرقابة
وفى سطور المذكرات الأخيرة يؤكد نوبار: «كنت أريد تغيير الرقابة الأجنبية التى فرضتها علينا القوى العظمى بإدارة أخرى نخضع لها بأنفسنا، جعلت المراقبين وزيرين، كنت أريد وزراء مصريين ولكنهم فرضوا علىّ الأجانب. كانت دائما الرقابة، دائما حكومتان تحكمان حكومة ثالثة وهذه ليست فكرتى التى فشلت وإنما هى فكرة الحكومة الفرنسية. أعتقد أننى انتهيت هكذا من مسألة كتابة ما يتعلق بحياتى العملية ويتبقى لى بعد ذلك أن أكتب بعض الأشياء؛ ردا على تلغراف أرسله ولسون، أصرت الحكومة البريطانية وتبعتها الحكومة الفرنسية إلى إعادتى لمنصب رئيس مجلس النظار، وفهم ولسون وبخاصة دى بلينيير أخيرا أننى أنا من كنت أقف حائلا بينهم وبين الوالى وبرحيلى كانوا سيجدون أنفسهم وجها لوجه مع سموه، لكن هذا الأمر لم يعنهم. رفض الخديو بشكل قاطع إعادتى وينحاز فيفيان وجودو إلى صفه وحدث تغيير إدارى، ولم يحصل الوالى على الرئاسة التى كان يزعم أنه يريد ممارستها؛ لأنها أعطيت إلى ابنه الكبير ولى العهد الأمير توفيق».
ويكمل نوبار: «كنت دائما أبحث عن معرفة علاقة الوالى بالضباط والمشاعر التى أثارت حفيظتهم ــ يقصد قرار تسريح أعداد من ضباط الجيش بلغت 2500 ضابط لضغط المصروفات ــ لم أستطع التوصل أبدا إلى معرفة الأمر تماما. عموما أعتقد أن المشاعر كانت دائما أقوى ضد الوزيرين الأجنبيين اللذين استفادا من الدائنين الأوروبيين وحرما الضباط وأسرهم من القليل من الموارد التى كانت تسد رمقهم، لكننى لاحظت أيضا أن من بينهم مجموعة بل أستطيع القول جماعة كانت تتهم الوالى بصفته السبب الأول والرئيسى لما يحدث من سوء. ويهيأ لى أن الوالى كان يشعر بهذه الأحاسيس المناهضة له، لكنه كان يحتفظ بكبريائه».
ويأتى قلم نوبار ليسجل الختام الذى يعكس قلقه على مستقبل مصر السياسى، طارحا عدة أسئلة: هل ستظل الحالة الراهنة إلى الأبد؟ أم أنها ستكون مجرد حالة مؤقتة؟
هل ستخضع مصر أو تُحتل كما فى الماضى بواسطة قوى أجنبية وسلالات أجنبية دائما ما انتهى بها الحال بأن تحتويها مصر؟. ويجيب نوبار قائلا: «لا أعلم.. لكن ما أعرفه هو أن مصر أصبحت أكثر من أى وقت مضى ضمن هذه المجموعة من الأمور التى اتفق الجميع على تسميتها «المسألة الشرقية»، كما رأى نوبار أن مصر مغلوبة على أمرها، ويشيد بشعبها، لكنه يشبهه بالطفل الوديع الذى يتحول فى لحظة إلى طفل مشاغب، ويُبين كيف استغل الغزاة هذا الشعب منذ القدم، ويُلوّح بما يفهم منه بأن الله على كل شىء قدير، أى بيده الخلاص. وهنا لاحظت الدكتورة لطيفة أن هناك لمسات دينية أسبغها نوبار على ما كتبه بين الحين والآخر، بما يعنى أن الله يلهمه الصواب ويسدد خطاه ويجعل له مخرجا
أسئلة بعد القراءة
والآن وبعد هذه القراءات من صفحات المذكرات هناك علامات استفهام تفرض نفسها مثل: هل كان نوبار ذلك الرجل الذى أحب مصر وكان يعمل على مصلحتها؟ وهل هذه الصورة الوردية عنه والتى رسمتها مذكراته قد اسُتخدمت فيها اللمسات الناعمة؟
تقول د. لطيفة سالم: «من خلال قراءات تاريخ العصر، نخرج منها بأن شخصية نوبار التصقت بها السلبيات، بخاصة أن فترة إسهاماته فى الحياة السياسية تُمثل ذروة التدخل الأجنبى فى شئون مصر، وكما هو معلوم انتهى بالاحتلال البريطانى لها الذى عمل معه نوبار نحو خمس سنوات. والواقع أن شخصيته ارتبطت فى الخطاب الوطنى بأنه المعبر عن المصالح الإنجليزية، وعندما قامت الثورة الوطنية المعروفة بالعرابية (1881ــ 1882) أسقطته من حساباتها تماما، واختارت شريف على أساس أنه من الأتراك الدستوريين. ولكن يجب أن يوضع فى الاعتبار أثناء محاولة الكشف عن الجانب الآخر من الشخصية ضرورة المعايشة الكاملة لها فى ضوء الظروف المحيطة بها وفى ظل ملابسات الفترة الزمنية». وذكرت الدكتورة القديرة لطيفة سالم ملاحظات مهمة حول نوبار نورد هنا بعضها مما تسمح له المساحة:
ــ على رغم مما أقدم عليه محمد على بشأن جعل مصر دولة مدنية، مما انعكس على مسيحيى مصر، فإن الاتجاه الإسلامى الذى كاد يسود المجتمع جعل ظهور شخصية نوبار المسيحى والأرمنى لا تلقى القبول، مع أنه قد أطلق عليه لقب «أبوالفلاح» نظرا لتعاطفه معه إزاء ما كان يعانيه من الضرائب والسخرة، وذلك الغبن الذى وقع عليه نتيجة أحكام المحاكم القنصلية الجائرة. وهنا من الضرورى مراعاة شعور الانتماء للدولة العثمانية فيما يتعلق بمسألة الخلافة الإسلامية من ناحية، وعلاقتها السيئة بالأرمن من ناحية أخرى، وقد انعكس ذلك على المصريين عندما أمسك نوبار بزمام مناصب مهمة. حقيقة إن مصر مثلت بوتقة انصهرت فيها العناصر المختلفة، ولكن لابد من الإشارة إلى أن هناك استثناء تمثّل فى أولئك الذين شكلوا قوة اجتماعية تربعت على قمة السلم الاجتماعى وأغلقت على نفسها، وعملت من أجل مصالحها؛ وذلك لا ينطبق على من هم أدنى منهم الذين امتزجوا بالمجتمع.
ــ لقد كان لنوبار رؤية نبعت من تكوينه وثقافته ومهامه داخل مصر وخارجها مما أكسبه الخبرات، ومن أحوال المجتمع التى درسها جيدا، وتوصل إلى أن مصر لم تزل فى مرحلة الطفولة التى لا تستطيع معها أن تكون دولة مستقلة.. وهو لا يعارض السيادة العثمانية عليها، وفى الوقت ذاته فقد رغب فى أن يتم ذلك دون تبعات مالية باهظة. ونظرا لمعارضته سلطة الحاكم الأوتقراطية التى عدها بيت الداء، رأى العلاج فى سلطة أجنبية تسقط الاستبدادية وتضبط الحكم، وتوّسم فيها خيرا، لكنه أدرك أخيرا أنها لم تكن كذلك.
ــ عندما قبل نوبار التعاون مع سلطات الاحتلال، وأصبح رئيسا لمجلس النظار، أصر على ألا تكون هناك عناصر أجنبية فى نظارته، حيث استرجع ما سبق أن حدث له، كما أنه دخل فى مصادمات مع المسئولين الإنجليز لرغبته فى الحد من توغلهم فى الإدارة، مما تسبب فى الاستغناء عنه.. معنى هذا أنه لم يعارض الاحتلال، ولكنه أراد أن تكون له حرية التصرف فى إدارة نظارته، ولم تكن مسألة الاعتماد على المصريين بجديدة عليه، إذ آمن بضرورة تدريبهم على مختلف الأعمال التى يشغلها الأجانب.
أسباب وختام
وفى الختام يجب أن نذكر أن مذكرات نوبار باشا رغم أهميتها البالغة لم تترجم كاملة إلى العربية وإن كان قد تعرض لها بشكل مختصر د. أحمد عبدالرحيم مصطفى فى كتابه «عصر حككيان»، وكتاب «نوبار فى مصر» لنبيل زكى الذى قام بعرض المذكرات مستخدما طريقة الاختزال واللقطات السريعة على حد وصف د.لطيفة سالم.
ويجب الإشارة إلى أن مكتبة لبنان فى بيروت نشرت المذكرات عام 1983 ولكن باللغة الفرنسية التى كتب بها نوبار باشا وأرفقت معها مقدمة طويلة للمفكر ميريت بطرس غالى أوضح فيها أسباب تأخير نشر المذكرات بلغتها الأصلية كل هذه المدة منها أن نوبار كان يرغب فى نشر ما يرتبط منها بمحمد على وعباس الأول وسعيد، لكن الجزء الخاص بالخديو إسماعيل كان من الصعب نشره، فضلا عن أنه لم يرغب فى أن تُجزأ الخطابات والمذكرات، وانتهى الأمر بأنه وكل مهمة نشرها إلى ورثته، وبعد ربع قرن من كتابتها رأى الملك فؤاد أن الوقت لم يحن بعد لنشر هذه المذكرات، وكانت رغبة عدم النشر محل احترام أبناء وأحفاد نوبار. وأشار ميريت غالى إلى أنه بعد ثورة 1952 رأى أحفاد نوبار أن من السابق لأوانه الإسراع فى نشر هذه المذكرات، فمثل هذا الأمر سوف يعطى انطباعا بأن عائلة نوبار انضمت إلى قلب الانتقادات الموجهة إلى الأسرة الحاكمة المخلوعة.
ولكن اليوم المذكرات بين أيدينا مترجمة إلى العربية بالكامل لنتعلم منها ونعرف انطباعات أول رئيس وزراء لمصر عن ولاة مصر والمصريين.
اعداد :
محمد رجب
Sunday, March 22, 2015
- تعليقات بلوجر
- تعليقات الفيس بوك
Item Reviewed: مذكرات نوبار باشا أول رئيس وزراء لمصر
Rating: 5
Reviewed By: Unknown