المركز الاقليمي للدراسات
كشفت التحولات السياسية والاجتماعية التي طرأت على دول الشرق الأوسط، خاصة بعد الثورات العربية، عن أن المجتمعات أصبحت تمثل الفاعل الرئيسي في كافة التفاعلات الداخلية وليس الدولة فحسب. ولعل انتشار ظاهرة الانتحار داخل تلك المجتمعات بشكل ملحوظ دفع إلى ضرورة البحث عن أسبابها، والتي يتقدمها الفقر، والأوضاع الاجتماعية المتدهورة، والإحباط السياسي بعد ازدياد التوقعات في أعقاب الثورات، والهروب من الممارسات القمعية للسلطة، والخوف من الاغتصاب، والاضطرابات النفسية والعصبية، والهروب من ويلات الصراعات الداخلية المسلحة، والأوضاع السيئة للعمالة الوافدة، وهو ما يجعل التعاطي معها يكتسب أبعادًا مركبة.
ظاهرة واسعة:
على الرغم من أن دول الشرق الأوسط لا تزال في مرتبة متأخرة من حيث معدلات الانتحار على مستوى العالم، فإنها شهدت ارتفاعًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، فلم تعد ظاهرة الانتحار قاصرة على دول بعينها، بل باتت حاضرة بقوة في كل الدول بما فيها المستقرة نسبيًّا بعد الثورات والاحتجاجات مثل مصر وتونس والسودان، وأيضًا في دول الصراعات المسلحة على غرار سوريا واليمن والعراق، علاوة على حضور الظاهرة ضمن العمالة الأجنبية في بعض دول الخليج، بالإضافة إلى عددٍ من دول الإقليم الأخرى مثل إيران وتركيا. كما أنها لم تعد قاصرة على فئة عمرية بعينها، بل ترتفع نسبيًّا في الفئات الشبابية بين 15-29 عامًا، أو جنس محدد، حيث شملت الرجال والنساء والأطفال أيضًا.
فقد كشف تقرير صدر عن منظمة الصحة العالمية في سبتمبر 2014 بعنوان "منع الانتحار ضرورة عالمية" عن ترتيب الدول العربية على مستوى العالم من حيث نسبة الانتحار لكل 100 ألف شخص؛ حيث جاء عدد من دول الإقليم في مكانة متقدمة مثل السودان والمغرب وقطر واليمن وموريتانيا وتونس والأردن والجزائر وليبيا ومصر والعراق وسلطنة عمان ولبنان وسوريا، وأخيرًا السعودية، وهو ما يمكن توضيحه في الشكل التالي:

وتُعتبر تونس من الدول كثيفة حالات الانتحار، ففي عام 2014 وفقًا لدراسة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وصل عدد حالات الانتحار إلى 203 حالة، منها 31 في القيروان وحدها في مناطق العلا والوسلاتية وحفوز وبوحجلة، وذلك بما يوازي 17 حالة شهريًّا، حيث إن غالبية الحالات في الفئة العمرية ما بين 26 و35 عامًا بما يمثل 60% من إجمالي المنتحرين، علاوة على وجود 18 حالة انتحار للأطفال منها 12 فتاة.
وقد انتشرت حالات الانتحار في سوريا بشكل ملحوظ، خاصة في المناطق الفقيرة، فوفقًا لإحصاءات وزارة الداخلية السورية، فقد شهد عام 2013 ارتفاعًا في حالات الانتحار لتصل إلى 60 حالة، منها 10 حالات في ريف دمشق، و12 في حلب، و9 حالات في حمص، بينما سجلت محافظة حماة 5 حالات، في الوقت الذي سجلت محافظة السويداء فيه ثلاث حالات، بينما بلغ عدد المنتحرين في اللاذقية 7، وفي درعا 7، وفي طرطوس 4، وفي الحسكة 3 حالات. كما بلغ إجمالي النساء المنتحرات 10 حالات، من بينهن 5 لم تتجاوز أعمارهم 18 عامًا.
كما شهدت العراق أيضًا طفرةً في عمليات الانتحار، فطبقًا لبيانات المفوضية العليا لحقوق الإنسان فإن عام 2013 سجل 393 حالة انتحار، بزيادة تقدر بنحو 60% عن العام الذي سبقه؛ إذ توزعت تلك الحالات بواقع 119 في ذي قار، و76 في ديالى، و68 في نينوى، و44 في بغداد الرصافة، و33 في البصرة، و16 بالمثنى، و15 في ميسان، و12 في واسط.
وفي الأردن، بلغ إجمالي حالات الانتحار 79 حالة خلال عام 2013، مسجلة ارتفاعًا عن عام 2012 الذي كان عدد الحالات فيه 56 حالة، منها 18% من الأطفال. وفي العام ذاته، ووفقًا لتقرير وزارة الداخلية اليمنية، فقد بلغ عدد حالات الانتحار في اليمن 251 حالة، من بينها 62 أنثى، و47 طفلا، و13 من حاملي الجنسيات الأجنبية. أما مصر فلا يمكن اعتبارها من الدول كثيفة الانتحار، فقد بلغ إجمالي حالات الانتحار فيها خلال عام 2014، وفقًا لتصريحات الدكتور هشام عبد الحميد المتحدث باسم الطب الشرعي، 79 حالة فقط، وهو ما يعد رقمًا متواضعًا إذا ما قورن بإحصاءات السياق الإقليمي.
وفي الإطار ذاته، شهدت الأراضي الفلسطينية أيضًا ارتفاعًا في حالات الانتحار، حيث بلغت عام 2014 وفقًا لتصريحات لؤي ارزيقات المتحدث باسم الشرطة الفلسطينية، 32 حالة، من بينها 21 من الذكور، و11 من الإناث، بزيادة عن عام 2012 الذي بلغ فيه إجمالي الحالات 19 فقط.
أسباب متعددة:
تتعدد أسباب تنامي معدلات ظاهرة الانتحار في دول الإقليم، فمنها ما يرتبط بالعوامل الاقتصادية كالفقر والبطالة، ومنها ما يتعلق بالأبعاد السياسية كالشعور بالإحباط في فترة ما بعد الثورات، فضلا عن تأثيرات الحروب والصراعات المسلحة. وفي هذا السياق، يمكن تلخيص أبرز تلك الأسباب فيما يلي:
1. الفقر والأوضاع الاجتماعية المتدهورة: يُعتبر الفقر وارتفاع معدلات البطالة وما ينتج عنها من عدم القدرة على توفير الاحتياجات المعيشية أحد أبرز دوافع عمليات الانتحار، وتزايد معدلاتها، لا سيما التدهور الاقتصادي الذي شهدته دول المنطقة بعد الثورات العربية، فقد أكدت منظمة الصحة العالمية أن أسباب انتحار ما يزيد عن 69% من أعداد المنتحرين في المنطقة العربية ناتجة عن ضغوط اقتصادية وبطالة.
2. الإحباط السياسي بعد فشل توقعات ما بعد الثورات: فعلى الرغم مما كان مأمولا من الثورات بأن تفتح مجالات أوسع للحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فإنه يبدو أن النتائج جاءت عكسية تمامًا، فقد ساءت الأوضاع بشكل ملفت للانتباه، وهو ما دفع إلى تزايد معدلات الانتحار، وخاصة بين الفئات العمرية الشبابية من النشطاء السياسيين.
3. الهروب من الممارسات القمعية للسلطة: ففي بعض الأحيان تدفع ممارسات الأجهزة الأمنية البعض نحو الانتحار، وهو ما شهدته إيران خلال شهر مايو 2015، حينما انتحرت فتاة كردية تُدعى فريناز خسرواني بعد محاولة أحد ضباط المخابرات الإيرانية اغتصابها في مدينة مهاباد، وانطلقت على خلفية ذلك موجة غضب ضخمة أسفرت عن حدوث اشتباكات بين متظاهرين وقوات مكافحة الشعب، وسقوط عدد من الجرحى.
4. الخوف من الاغتصاب والسبي: ويتركز هذا السبب بشكل أساسي في الحالة العراقية بعد اجتياح تنظيم "داعش" لأراضيها العام المنصرم. فقد انتشر هذا النمط من الانتحار بين النساء والفتيات الأيزيديات، وفقًا لتقرير صادر في أواخر عام 2014 عن منظمة العفو الدولية، حيث يقدمن على الانتحار خوفًا من تعرضهن لعمليات سبي واغتصاب على يد عناصر التنظيم.
5. الاضطرابات النفسية والعصبية: يظل العاملُ المَرَضِي، لا سيما حالات الاكتئاب الشديد الناتج عن المناخ العام المتوتر في الإقليم والعوامل الوراثية، أحد أبرز أسباب تزايد معدلات الانتحار، فوفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية فإن 90% من المنتحرين حول العالم بسبب الأمراض النفسية. ففي سوريا -على سبيل المثال- أكدت بيانات وزارة الصحة أن معدلات الاكتئاب الشديد أصابت ما يقرب من 30% من السوريين، بينما زادت معدلات الاضطرابات النفسية بنسبة 25% مقارنة بعام 2011، وعليه فإن ما يزيد عن 40% من السوريين يحتاجون إلى دعم نفسي واجتماعي.
6. الهروب من ويلات الصراعات الداخلية المسلحة: فوفقًا لتقرير حديث صادر عن مجموعة "جيوسياسي" للاستشارات والمعتمد على البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الدولية، فقد راح ضحية أربعة أعوام من الصراع المسلح في سوريا أكثر من مائتي ألف شخص، ونزح على إثرها، سواء داخليًّا أو خارجيًّا، ما يزيد عن 12 مليون شخص، وهو ما تسبب في ارتفاع معدلات الانتحار للهروب من الأوضاع الحربية المأساوية في عام 2013 لتصل إلى 60 حالة.
7. الأوضاع السيئة للعمالة الوافدة: لم يعد الانتحار قاصرًا على أبناء الدولة ذاتها، فقد امتد ليشمل العمالة الوافدة، وخاصة في بعض دول الخليج. فعلى الرغم من عدم وجود تقديرات رسمية عن أعداد العمال الوافدين المنتحرين في دول الخليج بسبب سوء الأحوال المعيشية والفقر بعد استغناء أصحاب الأعمال عنهم، إلا أنه لا تزال هناك بعض التقديرات بهذا الشأن وخاصة في البحرين، حيث أشارت جمعية "حقوق العمال الوافدين" إلى أن إجمالي المنتحرين خلال عام 2013 بلغ 60 حالة انتحار.
تصاعد متوقع:
على الرغم من خطورة ظاهرة الانتحار، خاصة فيما يتعلق بتأثيرها على سلامة البنية الاجتماعية والسياسية في مختلف دول إقليم الشرق الأوسط؛ فإنه يبدو أن مستقبل الظاهرة يسير في اتجاه متصاعد، لا سيما مع استمرار وتفاقم الأسباب البنيوية التي تُغذيها، مثل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، والتضييق المستمر على الحريات العامة والخاصة، علاوة على تزايد معدلات الإحباط وانخفاض سقف التوقعات من جانب، وعدم اتخاذ الحكومات القائمة أي خطوات جادة لمعالجة الظاهرة أو حتى الحد منها، بل على العكس من ذلك يتم التقليل منها واعتبارها جانبية أو غير موجودة من الأساس من جانب آخر.