برنامج الدراسات الأمريكية
يُمثل الاتفاق النووي الذي تم توقيعه بين إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، حدثًا بارزًا سوف يُفضي إلى تغييرات استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، يتعلق أبرزها بتغير أنماط التفاعلات بين إيران والقوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، بعد مرحلة من العداء امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تغير طبيعة توازنات القوى في المنطقة، وتحول إيران إلى رقم مهم في حسابات التوازن الاستراتيجي. لكن ذلك في مجمله لا ينفي أن ثمة تحديات عديدة يمكن أن تؤدي في النهاية إلى تقليص حدة التأثيرات المحتملة لهذا الاتفاق.
عوامل النجاح:
خاض المفاوضون من الجانبين -إيران والقوى الدولية الست- مفاوضات مكثفة خلال الشهور الماضية أفضت إلى توقيع الاتفاق النهائي بعد اتفاقين تمهيديين. ورغم ارتفاع سقف الأهداف التي كان يرغب كل طرفٍ في تحقيقها، وظروف البيئة المحيطة بالتفاوض، خاصةً مواقف القوى الداخلية وتحديدًا في إيران والولايات المتحدة الأمريكية، نجح المفاوضون في الوصول إلى الاتفاق، وهو ما يعود إلى ثلاثة عوامل رئيسية تتمثل في:
1- الحاجة إلى إنجاز الاتفاق: خلال مسيرة المفاوضات الممتدة، وضع كل طرف هدفًا رئيسيًّا حاول تحقيقه بأقصى قدر من المكاسب، إذ تمثل هدف المفاوضين الإيرانيين في الحفاظ على المكونات الرئيسية للبرنامج النووي، ورفع العقوبات، في المقابل تركز تحرك مفاوضي القوى الدولية على ضرورة منع إيران من تطوير هذا البرنامج خلال فترة زمنية محددة، ووضع ضوابط وقيود على هذا البرنامج، انطلاقًا من أن ذلك أفضل خيار لتجنب العمل العسكري.
2- إدارة المفاوضات: تطلب الوصول إلى الهدف الرئيسي من المفاوضين من الجانبين التحلي بالمرونة الدبلوماسية العالية، وبدء التفاوض من أعلى سقف ممكن، وتقديم تنازلات لا تُخلُّ بالهدف الرئيسي، ففي هذا الإطار تحرك مفاوضوا القوى الدولية لضمان أن يكون لدى إيران 100 جهاز طرد مركزي فقط، وانتهى الأمر بالنص على أن يكون لديها 6104 جهاز منها 5060 جهاز قيد التشغيل.
كما حاولوا فرض حظر على الأسلحة لمدة 25 عامًا، تقلصت في التفاوض إلى 8 أعوام، وسعوا إلى إغلاق مفاعل "فوردو"، لكن المفاوضات انتهت إلى استمراره مع منع إجراء عمليات تخصيب داخله، وهكذا وصل الطرفان إلى حلول وسط في الكثير من التفاصيل الفنية لا تُخل بالهدف الرئيسي.
3- العامل الشخصي: ربما يرتبط جزء من نجاح الطرفين في الوصول إلى اتفاق نهائي بحسابات الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونظيره الإيراني حسن روحاني، فلكل منهما أهدافه التي دفعته لمساندة ودعم فريق مفاوضيه بقوة، فالأول يرغب في تحقيق إنجاز تاريخي ويتبنى نهجًا يتعلق بإعادة صياغة آليات التفاعل مع إيران، من خلال التركيز على وجود مصالح مشتركة، فيما يسعى الثاني إلى إخراج إيران من عزلتها، وإدماجها في المجتمع الدولي لرفع المعاناة عن كاهل المواطن الإيراني، والتي نتجت عن الضرر الذي لحق بالاقتصاد الإيراني نتيجة العقوبات.
تداعيات مختلفة:
مع توقيع الاتفاق النهائي بين إيران والقوى الدولية، وموافقة مجلس الأمن على رفع العقوبات عن إيران بعد تصويته على ذلك في 20 يوليو 2015، وبعد تمريره داخل الكونجرس الأمريكي في شهر سبتمبر المقبل، سواء من المرة الأولى للتصويت أو بعد استخدام الرئيس أوباما حق النقض في حال أصدر الكونجرس بمجلسيه قرارًا برفض الاتفاق، ثم دخوله حيز النفاذ في مطلع عام 2016، ربما يمكن القول إن الاتفاق سوف يفرض أربعة تداعيات رئيسية على الوضع الاستراتيجي في المنطقة تتمثل في:
1- تغير وضع إيران: خلال السنوات الأخيرة واجهت إيران وضعًا دوليًّا صعبًا في ظل حظر مفروض عليها من قبل مجلس الأمن، وعقوبات وعداء متواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية. وبعد الوصول لاتفاق نهائي، نجحت إيران في الحصول على اعتراف دولي ببرنامجها النووي، كما سيرفع عنها الحظر المفروض من مجلس الأمن وبعض العقوبات الدولية الأخرى، وستحصل على ما بين 100 إلى 150 مليار دولار تمثل قيمة أرصدتها المجمدة في الخارج. ومن دون شك، فإن هذه التطورات تؤشر إلى بداية مرحلة جديدة من اندماج إيران مع المجتمع الدولي بعد سنوات من العزلة، فضلا عن تعزيز نفوذها كقوة إقليمية ضمن معادلة توازن القوى في المنطقة.
2- تغير توازن القوى في المنطقة: إذ يرجح أن تتجه الولايات المتحدة الأمريكية نحو إحداث توازن بين علاقاتها مع الحلفاء التقليديين ومسار تحركها نحو إيران خلال الفترة القادمة، خاصة في ظل تزايد احتمالات حدوث تقارب بين واشنطن وطهران في إطار الحرب ضد تنظيم "داعش".
3- تراجع فرص الخيار العسكري: ظل خيار التدخل العسكري لمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية أحد الخيارات المطروحة قبل دخول الطرفين -إيران والقوى الدولية- في مفاوضات بشأن البرنامج النووي، ومثَّل التهديد بهذا الخيار إحدى أدوات الضغط الأمريكي والإسرائيلي على طهران، وبالرغم من أن المؤسسة العسكرية الأمريكية "البنتاجون" تعتبر أن هذا الخيار يظل مطروحًا في حال عدم التزام إيران بالاتفاق، فإن الأمر شبه المؤكد أن خيار الحرب والعمل العسكري أصبح بعيدًا جدًّا في التعامل مع برنامج إيران النووي، فالاتفاق ضَمِنَ للولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي آليةً للرقابة على البرنامج، تُحقق النتائج نفسها التي يمكن أن يحققها العمل العسكري الذي سيؤخر إيران عن امتلاك القنبلة النووية لعدة سنوات، لكنه لن يمنعها كليًّا.
4- اندلاع سباق نووي في المنطقة: ربما يدفع الاعتراف الدولي ببرنامج إيران النووي رغم فرض قيود عليه، فضلا عن عدم استبعاد احتمال اتجاه إيران إلى التحايل على الاتفاق والتحرك بشكل سري في مرحلةٍ ما نحو امتلاك قنبلة نووية، قوى عديدة بالمنطقة إلى التحرك من أجل امتلاك برامج نووية سلمية، في إطار استراتيجيات جديدة لاحتواء إيران.
تحديات ما بعد الاتفاق:
رغم ذلك، فإن ثمة ثلاثة تحديات محتملة ترتبط بما بعد توقيع الاتفاق، وربما تحد من تأثيراته المتوقعة. يتمثلالتحدي الأول، في إمكانية حدوث اختراق إيراني للاتفاق، وهو ما قد يُعرِّضه للانهيار، والعودة إلى مرحلة ما قبل توقيعه. ورغم أنه من المستبعد عمليًّا حدوث اختراق إيراني نظرًا لآلية الرقابة التي نص عليها الاتفاق، إلا أنه يظل أمرًا واردًا.
فيما يرتبط التحدي الثاني، بمسار العلاقات الأمريكية- الإيرانية، فرغم حدوث تغيير جزئي في الظروف والمحددات الحاكمة لهذه العلاقات، وتحديدًا المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني؛ فإن احتمال تحسن وربما عودة العلاقات لسابق عهدها يعتمد على حدوث تحول في اتجاهات السياسات الإقليمية لإيران، والتوقف عن لعب دور مُزعزع للاستقرار في المنطقة، وهو احتمال مستبعد، بشكل يزيد من احتمالات أن يتحول التوافق المرن المرتبط بالتعاون في محاربة تنظيم "داعش" إلى أحد المحددات الرئيسية التي سوف تتحكم في تحديد اتجاهات هذه العلاقات.
بينما يتعلق التحدي الثالث، بتأثير الاتفاق على نظام الأمن في منطقة الخليج، إذ أن التحرك الأمريكي المبكر الذي انعكس في تصريحات الرئيس أوباما حول إعادة دمج إيران في المنطقة، قد يزيد من حالة التوتر في المنطقة، خاصة أنه يضفي وجاهة خاصة على الشكوك التي تبديها قوى إقليمية عديدة تجاه التغيرات البارزة في السياسة الأمريكية والتي بدت جلية خلال الفترة الأخيرة، لا سيما بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران.