احمد عبد المعطي حجازي
أتابع وأنا فى باريس ما يحدث فى مصر ساعة بساعة ونشرة بعد أخرى. وأكتب عن مدينة النور وأعنى مصر. أنام وأصحو باحثا عن
الأسباب التى قطعت الطريق على نهضتنا الحديثة، وحرمت علينا أن نشارك فى حكم بلادنا، وحولتنا الى مصفقين للحاكم الفرد الذى انفرد بكل شىء واستبد بكل شىء، ووضعتنا بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما نظام يوليو الذى تجرعنا على يده الذل وخرجنا من هزيمة لندخل هزيمة جديدة، وإما الإسلام السياسى الذى خيرنا بدوره بين خيارين اثنين لا ثالث له ما: إما ديكتاتوريته وإما إرهابه. وقد أسقطنا ديكتاتوريته فى ثورة الثلاثين من يونيو فلم يبق أمامنا إلا أن نواجه الإرهاب، ولم يبق أمامنا إلا أن نهزمه. والسؤال إذن: كيف نهزم الإرهاب؟ والجواب أننا نهزم الإرهاب حين نخرج من المناخ الذى نشأ فيه الإرهاب وترعرع ومن الأسباب التى أدت إليه.
والسؤال التالى إذن: ما هو هذا المناخ الذى ينشأ فيه الإرهاب؟ وما هى الأسباب التى تؤدى إليه؟
والجواب: المناخ هو القمع وتخويف المواطنين وحرمانهم من المشاركة فى بناء حياتهم وحكم أنفسهم بأنفسهم. هذا المناخ وهذه الأسباب تفرض على معظم المواطنين ان يكونوا سلبيين إزاء القضايا العامة مشفقين على مصائرهم منصرفين لشئونهم الخاصة غير مبالين بما يقع لغيرهم. وفى هذا المناخ تصبح السلطة الحاكمة معزولة متوجسة تضرب بعنف أكثر لتواجه القلة التى خرجت عليها مستخدمة ذات الأسلحة التى تستخدمها السلطة: العنف، والطغيان. هكذا وجدنا الإخوان يكررون نظام يوليو بحذافيره فيما عدا المظهر الخارجى. فنظام الإخوان نظام ملتح، ونظام يوليو حليق!
ومع أن المصريين لم يعرفوا الديمقراطية فى تاريخهم الطويل إلا فى سنوات قليلة من تاريخهم الحديث فقد أثبتوا أنهم شعب حر ديمقراطى بفطرته، وأن أمية الأميين وفقر الفقراء وعنف الحكام ووحشيتهم لم تشوه فطرتهم، ولم تفقدهم إيمانهم الراسخ بحقهم فى الحرية والكرامة وحاجتهم الأخلاقية والعملية للديمقراطية، وهكذا خرجوا ثائرين على الطغيان فى صورتيه، صورته الحليقة وصورته الملتحية. وإذن فقد أجاب المصريون عن السؤال المطروح فقالوا: إن هزيمة الإرهاب لن تكون أبدا بمصادرة الحريات، وإنما تتحقق ببناء نظام ديمقراطى يحفظ للمواطن حقه ويحترم حريته.
والنظم الديمقراطية تحفظ الحقوق وتحترم الحريات بما تقره من مبادئ وتقيمه من مؤسسات وأجهزة تسهر على أمن المواطنين. فالديمقراطية لا تسمح بالخروج على القانون، ولا تفتح مجالا للفوضى. لكن أجهزة الأمن فى النظام الديمقراطى غير أجهزة الأمن في النظم الديكتاتورية، الأمن في النظام الديمقراطي هو أمن المواطن وأمن الوطن، أما في الديكتاتورية فالأمن هو أمن الديكتاتور وحده، وليذهب الوطن والمواطن الي الجحيم!
هذا الدرس الذى استخلصناه من تجاربنا المرة، وانتفعنا به فى ثورة يناير وثورة يونيو يؤهلنا لبناء ديمقراطية حقيقية نتخلص فيها وبها من الارهاب أيا كان مصدره. لأن الديمقراطية تجند الشعب كله للدفاع عن نفسه وعن وطنه وعن دولته. وهو ثالوث مقدس: الشعب، والوطن، والدولة لا ينفصم ولا ينفصل طرف عن طرف.
الشعب لا يكون شعبا إلا بدولة تمثله وتجسد تاريخه وتدافع عنه وعن وطنه فلابد للدولة الوطنية من جيش وطنى. والدولة الوطنية لا تكون دولة ولا تكون وطنية إلا حين تنبثق من الشـــــعب وتعبر عن إرادة المواطنين عن طريق حكومة يختارها المواطنون فى انتخابات لا نســتطيع أن نخوضها ونؤدى واجبنا تجاه أنفسنا وتجاه وطننا إلا بخبرة ســياسية نحصل عليها بالنشاط الذى نمارسه داخل الأحزاب السياسية. أريد هنا أن أقول إن الانتخابات وما تسفر عنه هى الحصاد الذى نجنيه بعد موسم حافل بالنشاط السياسى الذى نستعرض فيه قضايانا ونفكر فى مشاكلاتنا ونرشح لحلها من نتوسم فيهم القدرة على ذلك. أما الانتخابات التى تجرى دون نشاط حزبى يسبقها فهى ضجة بلا طحن لا تثمر ديمقراطية ولا تحل معضلة لأن القوى التى تتحكم فيها هى القوى التى لا يحركها برنامج ولا يشغلها هدف وطنى، وإنما تحركها مصالحها الخاصة وروابطها والتزاماتها التقليدية على النحو الذى عرفناه فى تجاربنا السابقة التى انتهت بضياع الديمقراطية وبما ترتب على ضياع الديمقراطية من مآس وكوارث. وهكذا أعود لأقول إن الدولة الوطنية بالضرورة دولة ديمقراطية، فإن استولى عليها الطغاة المنفردون بالسلطة أصبحت منسرا ولجأت بالضرورة للعنف والإرهاب.
لكن ما علاقة هذا كله بباريس؟
علاقة هذا بباريس هى أننا لم نتحرر من سلطة العثمانيين، ولم نستعد وعينا بأنفسنا وبتاريخنا، ولم نميز بين الدولة الوطنية والامبراطوريات الدينية، ولم نسترجع حقنا فى حمل السلاح، ولم نعرف طريقنا للدستور والبرلمان إلا فى نهضتنا الحديثة التى كانت باريس عونا لنا فى تحقيقها. وقد أشرت فى مقالة الاربعاء الماضى للخدمات الجليلة التى قدمها لنا الفرنسيون أيام محمد على فى بناء قواتنا المسلحة.
وفى هذه المقالة أذكر بما قدموه لنا فى بناء دولتنا الوطنية وإقامة مؤسساتها.
أول كلمة فى اللغة العربية عن الدولة الوطنية كتبها الطهطاوى بعد عودته من باريس. وأول كلمة عن الدستور أو «الشرطة» كما سماه الطهطاوى، وأول كلمة عن الصراع بين الشعب المطالب بحقوقه وبين حكامه الطغاه، وأول كلمة عن الرأى العام، وعن الأحزاب السياسية، وعن الصحافة، وعن حرية الصحافة قرأها المصريون فى هذه السطور التى كتبها الطهطاوى قبل مائة وثمانين عاما من اليوم: «ومن الأشياء التى يستفيد منها الانسان كثير الفوائد الشاردة التذاكر اليومية المسماة الجرنالات جمع جرنال. وهو يجمع فى اللغة الفرنساوية على جرنو. وهى ورقات تطبع كل يوم وتذكر كل ما وصل إليهم علمه فى ذلك اليوم وتنتشر فى المدينة وتباع لسائر الناس. وسائر أكابر باريس يرتبونها كل يوم، وكذلك سائر القهاوى. وهذه الجرنالات مأذون فيها لسائر أهل فرنسا أن تقول ما يخطر لها وتستحسن وتستقبح ما تراه حسنا أو قبيحا وأن تقول رأيها فى تدبير الدولة، فلها حرية تامة ما لم تضر فى ذلك فانه يحكم عليها وتطلب قدام القاضى».
ونحن نعرف أن أول برلمان فى مصر وفى المنطقة أنشأه الخديو إسماعيل فى ستينيات القرن التاسع عشر، منذ مائة وخمسين عاما. ونعرف أن الخديو إسماعيل تلقى دراسته فى باريس قبل أن يعود إلى مصر ليتولى السلطة بعد عمه سعيد.
ونحن نعرف أن إسماعيل الذى أنشأ البرلمان ودعا المصريين لانتخاب ممثليهم هو إسماعيل الذى أنشأ الأوبرا. ونحن نعرف أننا حين فقدنا البرلمان فقدنا دار الأوبرا فالانتخابات زيفت، ودار الأوبرا احترقت. وهكذا خرجنا من زمن النهضة وعدنا القهقرى إلى زمن الأتراك والمماليك الذى خرجنا منه في يناير ويونيو.
لنقف فى مفترق الطرق، إما أن نستأنف النهضة ونهزم الإرهاب والطغيان، وإما أن نستسلم لهما. إما أن نفصل بين الدين والدولة، وإما نخرج من العصور الحديثة ونعود إلى عصور الظلام!