بقلم : أكرم ألفي

تنطلق رؤية الإخوان المسلمين للعلاقات الدولية من تعريف أنها “العلاقات والصلات الخارجية التي تقيمها الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول والجماعات والأفراد لتحقيق أهداف معينة وفقاً للشريعة الإسلامية”. هذا التعريف لا يفسر بالضرورة دور العلاقات الدولية خارج القواعد العامة للشريعة الإسلامية المستنبطة من القرآن والسنة والخاصة بوحدة الأصل الإنساني والكرامة الآدمية والتعارف بين الشعوب والقبائل والتعايش مع الآخر والتعاون لتحقيق أهداف عامة مثل الإعلاء من القيم الإنسانية والأخلاق ومناصرة المستضعفين في الأرض ومحاربة الظلم.
ويقسم “الإخوان” أهداف العلاقة مع الغرب والعالم بالنسبة للدولة الإسلامية إلى أهداف عامة وخاصة، العامة تتضمن حماية الدولة وسيادتها ورعاية المصالح وتحقيق الأمن والاستقرار والسلام العالمي. وتشمل الخاصة نشر الدعوة الإسلامية وحماية الأقليات المسلمة وحفظ حقوقها المتعلقة بشعائرها الدينية ودرء الأخطار عن الأمة الإسلامية عبر تكرار ما سبق من أهداف بنشر الدين الإسلامي وحماية معتنقيه وإزالة العوائق لأداء فرائضهم الدينية وعدم الحيلولة دون اعتناق غير المسلمين دين الإسلام.
إن العلاقات الدولية بالنسبة للإخوان تتمحور حول الدفاع عن الدين الإسلامي والمسلمين ونشر الدعوة إلى جانب الدفاع عن الدولة الإسلامية وصولاً إلى الهدف الرئيسي للتنظيم الخاص بإعادة دولة الخلافة الإسلامية التي تحطمت على صخرة “المؤامرة” الغربية عبر سقوط الخلافة العثمانية خلال عشرينيات القرن الماضي.
وفي محاولة لإبراز التباين في رسم السياسة الخارجية بين الدولة الإسلامية المفترضة وغيرها من الدول، يشدد تنظيم “الإخوان” على ما يعتبره “مميزات” للعلاقة الدولية في الإسلام وهي استنادها لمصادر ثابتة هي القرآن والسنة واجتهاد الفقهاء وعدم الخضوع للمتغيرات والأحداث فيما تتميز بالتوازي بالمرونة والاستجابة لمتغيرات الزمان والمكان والحال. فالعلاقات الدولية – وفقاً لمفهوم “الإخوان”- تستند إلى الشريعة كباعث ومحرك وهي علاقة شمولية لا تقتصر على الدول بل تشمل المؤسسات والأفراد وهي تقوم أيضاً على تحقيق “أهداف نبيلة سامية” وترفض مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”.
هكذا نجد أن القواعد الأيديولوجية للسياسة الخارجية للإخوان لا تخرج عن قواعد عامة “مبهمة” تقوم على الشريعة والاستناد لمصادرها الرئيسية، إلى جانب المرونة بشأن التغيرات بدون حديث واضح عن الصراع والمصلحة خارج التقسيم التقليدي لوحدات العلاقة مع المسلمين. وهي دار الإسلام: تلك الوحدة الإقليمية التي تسيطر عليها عقائد الإسلام وقوانينه وهي وحدة تختلف عن الدولة القومية من حيث أنها لا تقوم على جنسية محددة وتقوم على الانتماء للإسلام والولاء له. ودار العهد: وهي الدار التي دخلت في حماية دار الإسلام دون اعتناق الإسلام أو تطبق شرائعه. ودار الحياد: وهي الدول التي ترتبط بعلاقة تعايش سلمي مع دار الإسلام. ودار الحرب: وهي الدول التي تقوم بشن حرب على دار الإسلام أو تمنع نشر الدعوة الإسلامية وتناصبها العداء.
هذا التقسيم تتشارك فيه الأيديولوجية الإخوانية مع أيديولوجيات الحركات الإسلامية المختلفة. ويظهر التباين الرئيسي في تعريف دار الحرب بالنسبة للإخوان خلاف التنظيمات الأكثر تشدداً مثل “القاعدة”. فبالنسبة للقاعدة والفكر الجهادي فإن دار الحرب تشمل كافة الدول التي لا تتبني الشريعة الإسلامية بل يعتبر الفكر “الجهادي” أن الدول التي تقطنها أغلبية مسلمة دون حكم الشريعة بمثابة دار حرب. في المقابل، فإن “الإخوان” يرفضون هذا المنطق دون تحديد دقيق لأمثلة عن دار الإسلام ودار العهد ودار الحياد ودار الحرب في الخريطة العالمية الراهنة.
بالتوازي، تتضمن الأيديولوجية الإخوانية أفكاراً قريبة من الرؤية المتشددة، حيث إن دار الإسلام بالنسبة لسيد قطب هي “تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضاً، وما عداها فهو دار حرب، علاقة المسلم بها إما القتال، وإما المهادنة على عهد أمان، ولكنها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين”. وربما هذا الموقف تمت مراجعته دون تقديم نقد واضح لرؤية سيد قطب. واعتبر عدد من قيادات “الإخوان” أنه من أخطاء تنظيم القاعدة اعتبار ديار المسلمين دار كفر وحرب.
ولانجد لهذه الرؤية الأيديولوجية العامة لمنظور الإخوان المسلمين للعلاقات الدولية ترجمة واضحة في البرامج السياسية التي تبنتها الجماعة خلال السنوات العشر الأخيرة منذ مبادرة الإصلاح (مارس 2004). وهو ما يفرض الرجوع إلى كتابات قيادات الإخوان منذ تأسيس الجماعة (1928)، حيث ركز تنظيم “الإخوان” في علاقته مع الغرب على مركزية الصراع الحضاري وعلاقة العهد مع الآخر. ووفقا للمرشد المؤسس حسن البنا فإن “العهد” هو الذي يحدد علاقة النظم الإسلامية مع الدول الغربية مستنداً إلى “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً” (الإسراء: 34).
وبحسب البنا: “يظن الناس أن نظم الإسلام في حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية، وتعكر صفو العلاقات السياسية بيننا وبينهم بعد أن كادت أن تستقر وهو أيضاً ظن عريق في الوهم. فإن هذه الدول كانت تسيء بنا الظنون … فالإسلام يؤكد على المحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات”. هكذا يبتعد البناء خطوات عن تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب لصالح مركزية دار الحياد في العلاقة مع الغرب. وفي هذا السياق، ركز المرشد الأول وتلامذته على الصراع الحضاري مع الغرب. وليس من المصادفة أن مركز العمل الدعوي والاجتماعي للجماعة خلال السنوات الأولى لنشأتها كان مواجهة العمل الاجتماعي للإرساليات الغربية، والتعامل مع مواجهة الفكر العلماني والقومي كجزء من الصراع مع الغرب الذي يسعى لوأد الفكرة الإسلامية. بل إن “الإخوان” يعتبرون في الأدبيات الكلاسيكية أن الصراع مع الإرساليات كان الميدان العملي للحرب ضد الاستعمار الغربي خلال الثلاثينيات والأربعينيات.
وفي ظل هيمنة فكرة الصراع الحضاري والديني، فقد وجد الخطاب ضد الاحتلال مكاناً في الفكر الإخواني خلال فترة المرشد الأول في ظل الاحتلال البريطاني.. ولكننا نجد أن البنا لم يذكر إلا متأخراً دافع مواجهة الاحتلال كأحد أسباب نشأة الجماعة، مشيراً إلى أن وجود المعسكر الإنجليزي في الإسماعيلية كان محرضاً لتأسيس “الإخوان المسلمين” واعتبار تأسيس جمعية الإخوان تعبيراً عن حرية الوطن وعزة الأمة. وتزامن ذلك مع وضع “الإخوان” في برنامجهم (منتصف الأربعينيات) فقرة جديدة تتضمن “العمل على مقاومة الاستعمار وتحرير أرض الوطن من موبقاته لكي تظفر الأمة والحكومة بحريتها”.
ودون الدخول في تفاصيل العلاقة بين حسن البنا والاستعمار البريطاني خلال الأربعينيات وصولاً لاتفاقية الجلاء في 1954، فإننا نجد أن الوثائق الإخوانية امتنعت عن وصف بريطانيا صراحة بأنها دار حرب، وتبنت مفاهيم ومصطلحات سياسية عامة مثل الاحتلال والعداء لمصر والمعسكر الغربي. وبالتالي فإن القول إن هناك تحول دراماتيكي في خطاب الإخوان تجاه الغرب ظهر في منتصف العقد الأول من القرن الحالي عبر مبادرة الإصلاح ومن خلال اللقاءات الأولى لقيادات الإخوان مع ممثلين سياسيين وأكاديميين غربيين غير دقيق. وربما منبع هذه الفكرة هو انطلاق عدد من الباحثين من كتابات سيد قطب بالنسبة لدار الحرب ودار الكفر. وهي الكتابات التي لم تترجم في برامج “الإخوان” السياسية التي تبنتها عبر تاريخها بكلمات صريحة ولكن توافقاً مع أيديولوجية “الإخوان” التي تتجنب التحديد والتدقيق فإنها – كما ذكرنا – لم تقدم بالتوازي نقداً واضحاً لهذه الرؤية.
في المقابل، حاول قادة الإخوان – بعد البنا- التأكيد أكثر من مرة على فكرة “سوء فهم” الغرب لمواقف الإخوان كما سبق وطرحها البنا. وهو ما يظهر في تصريح مرشد الإخوان الثاني حسن الهضيبي بأنه” على ثقة من أن الغرب سيقتنع بمزايا الإخوان المسلمين وسيكف عن اعتبارهم شبحاً مفزعاً كما حاول البعض أن يصورهم”. وهو الخط الذي سارت عليه الجماعة منذ الخمسينيات حتى اللحظة، حيث حاولت أن تجد طريقاً لتحسين صورتها لدى الغرب وتطوير خطاباً قائم على قاعدة دار الحياد مع الحفاظ على الخطاب العدائي تجاه إسرائيل والصهيونية كأحد قواعد بناء خطاب الإسلام السياسي منذ 1948.
وترجمت البرامج السياسية لـ”الإخوان” قواعد الأيديولوجية تجاه الغرب القائمة على التعاون والسعي للتواصل على قاعدة “دار الحياد” والابتعاد عن نمطية دار الإسلام ودار الحرب – باستثناء إسرائيل- بل إنها تقترب في العديد من نقاطها مع قواعد السياسية الخارجية للتيارات السياسية الأخرى.
وتمثل مبادرة الإصلاح التي طرحتها جماعة “الإخوان” في مارس 2004 ترجمة للمنظور العام لموقف التنظيم تجاه السياسة الخارجية. وفي هذا المنظور يقسم مجال السياسة الخارجية إلى أربع دوائر رئيسية هي: الدائرة العربية ثم الدائرة الأفريقية ثم الدائرة الإسلامية وهي الدائرة العقائدية التي تسعى لتحقيق الوحدة الإسلامية وأخيراً الدائرة العالمية. فهذا المشروع لم يتضمن أي ذكر أو إشارة إلى التقسيم التقليدي إلى دار الإسلام ودار العهد ودار الحياد ودار الحرب لصالح التركيز على الدائرة الإسلامية باعتبارها دائرة عقائدية مع تجنب واضح للإشارة إلى هدف “الخلافة الإسلامية”.
وصاغ “الإخوان” هذه الرؤية بشكل أكثر تفصيلاً في البرنامج الانتخابي لمرشحي الجماعة في انتخابات 2005 باعتبار أن العلاقات العربية الإقليمية والإسلامية من عناصر الأمن القومي والتأكيد على الصراع مع “الصهاينة”. وفي هذا البرنامج شددت الجماعة على مواجهة الصهيونية وتجنب الحديث عن العلاقة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، حيث نص البرنامج على ضرورة دعم المقاومة ودعم حركات المقاطعة ومقاومة التطبيع وتبني سياسة عربية لمواجهة السياسة الصهيونية وإعادة النظر في المنهج وطبيعة العلاقات المصرية الصهيونية والاهتمام بالعلاقة ومشروعات التكامل بين مصر والسودان. ونلاحظ في هذا السياق أن البرنامج الانتخابي للإخوان لم يطالب صراحة بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل بل اقتصر على المطالبة بإعادة النظر في العلاقات بين القاهرة وتل أبيب.
وعلى نفس المنوال جاء برنامج “الإخوان” الانتخابي لعام 2010، حيث شدد على ضرورة تفعيل جامعة الدول العربية ودعم مقاومة الاحتلال ومد يد العون والمساعدة للشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية ومقاومة كل أشكال التطبيع الاقتصادي والثقافي والسياسي والأمني مع الكيان الصهيوني وإلغاء كافة الاتفاقيات التي تدعم ذلك. وهنا أيضاً لم يشر صراحة إلى اتفاقية كامب ديفيد. مع المطالبة برفع الحصار عن قطاع غزة. وبالنسبة للعراق فطالب بضرورة التأكيد على مغادرة القوات المحتلة للعراق فوراً.
وبالنسبة للدائرة الأفريقية، طالب البرنامج بتفعيل الدور المصري في أفريقيا وخاصة دول حوض النيل وتأمين حصة مصر من مياه النيل. وفي الدائرة الإسلامية، اقتصر البرنامج على المطالبة باستعادة دور مصر في المحيط الإسلامي وتوطيد العلاقات مع تركيا وإيران وماليزيا وباكستان وإندونيسيا. وفي الدائرة العالمية كرر البرنامج المطالبة بتقوية العلاقات مع كل دول العالم والمنظمات الدولية على قاعدة الندية والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وعقب ثورة 25 يناير وتأسيس حزب “الحرية والعدالة” كجناح سياسي لجماعة “الإخوان المسلمين”، حافظ الحزب على الخط العام مع وضح تفصيل لعدد من النقاط مع اقتراب الجماعة من إمكانية الوصول للسلطة، فنجد أن برنامج الحزب تحدث صراحة عن إتاحة القانون الدولي مراجعة الاتفاقيات والمعاهدات – دون الإشارة عن اتفاقية السلام مع إسرائيل – وضرورة أن تكون مقبولة شعبياً. وهو ما ترجم رؤية تبنتها أغلبيه قيادة “الإخوان” خلال عام 2011 بشأن الاستفتاء على اتفاقية كامب ديفيد. وعاد البرنامج وكرر الحديث عن دعم الجهود للوصول إلى حل جذري وعادل للقضية الفلسطينية ودعم الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ودعم حق الشعوب والعالم في التحرر من الاحتلال ومقاومته.
إن قراءة الخطاب الأيديولوجي والبرامجي يعد الباب الرئيسي لفهم العلاقة بين “الإخوان” والغرب، حيث إن العديد من الباحثين اعتمدوا على تصريحات ذات طابع تحريضي وجماهيري “للاستهلاك الداخلي” كمدخل لطرح علاقة “عدائية” بين الجماعة والغرب. وهو ما لا يوجد له سند واقعي في الخطاب السياسي الرسمي والتقليدي للجماعة أو برامجها السياسية وبالتالي فإن الحوار بين “الإخوان” والغرب يمثل نقطة لقاء ممكنة وضرورية للجماعة في إطار سعيها من أجل تحقيق أحد أهدافها الرئيسية الخاصة بإقناع الغرب بمزايا الجماعة والكف عن اعتبارها “شبحاً مفزعاً”. وهو الحوار الذي يقوم على قاعدة البرنامج السياسي البراجماتي دون الخوض في الأيديولوجية المؤسسة.
المراجع:
1- الإخوان المسلمون والعلاقات الدولية. الموقف والتحركات، الرابط:
2- المرجع السابق ذكره.
3- سيد قطب: معالم في الطريق، دار الشروق، بيروت، القاهرة، 1982، ص135
4- رسائل الإمام الشهيد، ص 285.
5- رسائل المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين، مجموعة الرسائل.
6- الإخوان المسلمون ونظرتهم إلى الغرب، الرابط:
7- البرنامج الانتخابي للإخوان المسلمين عام 2005، أنظر العلاقات الخارجية.
8- البرنامج الانتخابي للإخوان المسلمين في انتخابات مجلس الشعب 2010.
9- برنامج حزب الحرية والعدالة، عام 2011.