بقلم : محمد فتحي يونس

لسنوات طويلة ربطت دراسات وتحليلات اعتمدت التحليل الطبقي؛ بين ظاهرة الإرهاب وبين الفقر، معتبرة المجتمعات الفقيرة حاضنة للأفكار التكفيرية، التي يتبناها أفراد محبطون، كطريق مباشر لتغيير العالم، وتجسير الفجوات الاجتماعية بين الطبقات، أو كرد فعل للحرمان من الحقوق الاجتماعية و القانونية مثل دراسة برنار روجيه” فضاءات صناعة التطرف” التي تناول فيها نشأة التنظيمات المقاتلة في المخيمات الفلسطينية بلبنان، أو ربط “أوليفي روا” في كتابه (نحو إسلام أوروبي) بين تجنيد أبناء الضواحي في فرنسا للقتال في البوسنة و أفغانستان وفشلهم الاجتماعي.
أو بين زيادة معدلات البطالة في المملكة العربية السعودية بداية الألفية الثانية وكذلك تراجع عائدات النفط وبين تجنيد شباب سعوديين في تنظيم القاعدة عانوا من البطالة، قبيل الانخراط في معسكرات التدريب. (1)
وهي رؤية تمتد لتأصيل نجاح الظاهرة الإسلامية عموما في ظروف اجتماعية مضطربة” حيث تقدم للشبيبة المحرومة تعليلا دفاعيا متماسكا للحرمان، لأن التكيف الثقافي مع النمط الغربي لم يحرر العادات بل جعل المتعة خارج متناول اليد. (2)
لكن التحليل الطبقي للظاهرة الإرهابية، الذي ربط بين الإرهاب والفقر، تعرض لانتقادات لعدم قدرته على تعميم النتائج، خاصة مع تغلغل الأفكار التكفيرية لأوساط غنية، وتورط بعض أبنائها في عضوية شبكات أصولية كنتيجة للإيمان بهذه الأفكار، أو تمويل عمليات مسلحة لهذه الجماعات دون الانضمام المباشر لها.
وتتنوع الأسباب التي تقف وراء تغلغل الأفكار التكفيرية في الأوساط الغنية، مثلما تتنوع آليات التجنيد.
وضمت أجيال متتالية من التنظيمات الأصولية الجهادية قادة وأعضاء موسرين، فانتمى مثلا مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن إلى أسرة غنية، كانت على صلة قوية ولا تزال بالأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية، وبلغت ثروتها بحسب 7.5 مليار دولار (3) وكان الرجل الثاني أيمن الظواهري ينتمي للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، كما مول أثرياء عمليات مسلحة لجماعات تكفيرية في مناطق مختلفة من العالم.
وحصل محمد عطا أحد المهتمين في تفجيرات سبتمبر أيلول على ماجستير في التخطيط العمراني من ألمانيا، وينتمي لعائلة ميسورة في مصر.
ويتسم الجيل الثالث من الجماعات الأصولية المسلحة، المتمايز بدوره عن الجيل الأول (تنظيم القاعدة، وعن الجيل الثاني (جماعات القاعدة المحلية) بعدة سمات من بينها” أنهم مرفهون اجتماعيا، حيث ينتمي هؤلاء إلى الطبقة الوسطى فهم غير فقراء، ولا يوجد قانون محدد فيما يتعلق بالعمر أو الجنس ومعظمهم لم يتخرج من جامعات دينية، بل تخرجوا من جامعات ذات طبيعة مهنية. (4)
وللدلالة على ما سبق، ضبطت السلطات في مصر، أثرياء متهمين بتمويل شبكات أصولية مسلحة منهم أحمد شعبان وهو رجل أعمال ميسور يقطن في ضاحية الرحاب، وينتمي تنظيميا لكتائب الفرقان، وتمتلك أسرته سلسلة من الشركات والمحال التجارية، واتهمته السلطات بتمويل عملية اغتيال ضابط بالأمن الوطني في مصر (محمد مبروك). (5)
كما اهتمت وسائل الإعلام الغربية بتناول قصة انضمام شاب مصري إلى تنظيم داعش بالعراق وسوريا، يدعى إسلام يكن، تلقى تعليما حديثا، بمدرسة الليسيه، بمصر الجديدة وينتمي لشريحة عالية الدخل من الطبقة المتوسطة، وكان يمارس حياته على النمط الغربي، وانتشرت قصته بعد عدة تغريدات، كتبها على موقع تويتر، مصحوبة بصور في ميدان القتال.
أسباب انضمام أبناء العائلات الثرية للجماعات الأصولية:
وتنوع أسباب انضمام أبناء العائلات الغنية أو الأشخاص الذين يتمتعون بعائد مالي متميز للجماعات الأصولية أو تمويلها، ومن بين تلك الأسباب:
1-مركزية فكرة المال كأداة لخدمة الدين في أدبيات الإسلام السياسي:
فالمال فكرة مركزية في التراث الإسلامي كأداة لخدمة الدين، وبذله لأغراض أخروية بشكل عام يعد بمثابة جهاد يثاب صاحبه، وكثيرا من النصوص الدينية حثت على العطاء المالي للدين، في أغراض متنوعة، وأهمها العتاد الحربي، ويكرر الخطاب التجنيدي والدعائي للتنظيمات قصصا تاريخية تعزز من فكرة التمويل؛ منها على سبيل المثال قصة الخليفة عثمان بن عفان مع جيش العثرة، عندما أراد النبي محمد تجهيز عتاد لغزوة تبوك، وحث المؤمنين على التبرع، فقدمت النساء حليها، وكل بما يجود بهن لكن التبرعات لم تكف، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم للجموع قائلا: من يجهز هؤلاء ويغفر الله له؟ وما كاد عثمان يسمع نداء النبي حتى سارع إلى مغفرة من الله ورضوان، وهكذا وجدت العسرة الضاغطة عثمانها المعطاء”(فتح الباري)
ومع التماهي بين فكرة التنظيم وبين فكرة الدين، عد التبرع للتنظيم جهادا، وفق تأويلات لفقهاء أصوليين.
كما تمتع الأثرياء بمكانة خاصة في مركز اتخاذ القرار في التراث الإسلامي، مع تشكيل الثراء أحد روافد التي يعتز بها التراث الإسلامي، وترجمت هذه القوة في حوادث عديدة، منها دعاء النبي محمد بأن (يعز) الله الإسلام بأحد العمرين؛ عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام.
ورغبة الجماعات الأصولية في استعادة التجربة التاريخية لزمن النبي محمد، وراء إسقاط التصرفات المصاحبة للغزوات ومنها التبرع بالمال، على حوادث معاصرة، فتعتبر مساندة المسلحين في حروبهم تقليدا لوقوف أثرياء السلف ماليا مع القوات المسلمة في عصر الخلافة.
ووفق هذه الرؤية تورط أثرياء في مجتمعات مسلمة في تمويل عمليات مسلحة.
كما دعم مسئولون رسميون جماعات مسلحة في أفغانستان، أثناء قتال الروس، خاصة قبيل وضوح خطر المقاتلين العرب، فدعم أثرياء في المملكة العربية السعودية الجماعات المسلحة في أفغانستان، بل خفضت الحكومة السعودية تذاكر السفر لباكستان لفتح الطريق أمام المتطوعين، وتطوع ولي العهد الأمير عبد الله وقتها بعشرات الشاحنات لنقل المؤن إلى أفغانستان عبر باكستان. (6)
ومع مركزية فكرة المال ودوره في الجهاد كان السياق الذي تم تسويقه للمسلمين المتعاطفين، مع الأفغان أن في أفغانستان هو كون الإسلام مهدد من الشيوعية العالمية، ومن ثم وجب مساندة المجاهدين، بالأنفس والأموال.
2-تبعية رجال الأعمال للنظم الحاكمة:
في فترة الحرب السوفيتية الأفغانية شجعت الحكومة السعودية السفر لأفغانستان، ومع انتشار نمط رجال الأعمال المركنتيليين المرتبطين بالنظام السياسي، ساهم هؤلاء في دعم سياسات الدولة الخارجية ومنها الحركات المجاهدة في أفغانستان، قبل أن تبدأ الدولة السعودية نفسها محاربة العائدين من جبهات القتال عندما توجهت عملياتهم إلى الداخل، وأسست القاعدة فرعا لها في جزيرة العرب.
3-النزعة التطهرية بالتمويل أو الانضمام لجماعات أصولية:
فنمط حياة بعض المنضمين أو الممولين لجماعات أصولية قد يكون دافعا للتجنيد، فانغماس هؤلاء في ملذات وترف معيشي يدفعهم أحيانا لتبني أفكار متشددة، مع تنامي نزعات تطهرية لديهم هدفها الرغبة في التكفير عن الماضي، ومن الأمثلة على ذلك انضمام المطرب اللبناني فضل شاكر إلى تنظيمات أصولية في سوريا، بعد فترة تعايش مع جماعة الداعية السلفي أحمد الأسير، إمام مسجد بلال بن رباح بمدينة صيدا اللبنانية.
وصدر بحق فضل شاكر، قرار اتهام يطالب بإعدامه هو و53 آخرين في أحداث “عبرا” جنوب لبنان يونيو الماضي، المتهم فيها بتكوين مجموعات عسكرية وقتل جنود وضباط.
وقبل تورط شاكر في أحداث “عبرا” أصدر تصريحات اعتبر فيها الفن حرام ومحرض على الرذيلة، وأنه “سيتفرغ للعبادة والقضايا المحقة. (7)
وفي سوريا انضم للأوساط الأصولية مطرب آخر هو الألماني دينيس مامادو كوسبيرت الذي كان مشهورا بغناء الراب ثم تحول لمطرب أناشيد جهادية تحت اسم أبو حمزة الألماني بعد أن أسس جماعة ملة إبراهيم في ألمانيا وحظرتها السلطات، فانضم للجهاديين في سيناء، ومنها انتقل لسوريا.
وهذا النمط التطهري يدفع بعض الأثرياء للانضمام لجماعات أصولية بينما تلعب الدعاية الأصولية على إبراز هؤلاء الأثرياء المشاهير لتشجيع جمهورها على الاحتذاء بهم.
4- براجماتية الجماعات الأصولية:
تتميز الجماعات الأصولية بكونها جماعات مغلقة، غير مفتوحة العضوية، بل قائمة على التجنيد، ومن ثم تختار من تريد أن تجنده، وفق استراتيجياتها وسياساتها، فتتجه الجماعات للأثرياء، والمهنيين، لدعم الجماعة اقتصاديا، في ظل تبني بعض الجماعات لسياسة دفع جزء من الدخل بانتظام، يتراوح من 7_9% من الدخل الشهري، لصالح تنمية موارد الجماعة، وفي ظل احتمال تبرع الأثرياء بنسبة من الدخل، تنعش خزائن الجماعة، تجعل الجماعات من أصحاب الدخل المرتفع هدفا دائما،
ومن هنا يحمل هذا الطرح جزءا من أسباب تركيز جماعة الإخوان على شريحة المهنيين، من المهندسين والأطباء ورجال الأعمال إضافة إلى أسباب أخرى.
وفي ظل تكنيكات الإرهاب الحديثة يلعب الأثرياء أدوارا جديدة، في الحوادث المسلحة، فيعتمد مثلا الجيل الثالث من الجهاديين حاليا على تكنيكي: الذئب المنفرد lone wolf ” “، والخلايا الصغيرة “micro cells” في إدارة عملياته.
والتكنيك الأول: يتم التصرف فيها بصورة فردية، حيث يمكن أن يخطط للهجوم شخص واحد، بعد أن يطور أيديولوجي خاصة به، تجمع بين مشاعر عدم الرضا والإحباط ويستند إلى مجتمعات توفر شرعية ما لأفكاره، وعادة ما تتألف هذه المجتمعات من مجتمعات متطرفة.
والتكنيك الثاني يتألف من عدد محدود من الأشخاص تربطهم علاقة ثقة وتجمعهم أيديولوجية خاصة، وتكون عملية صنع القرار جماعية”. (8) وفي ظل هذين النوعين المعتمدين على عدد قليل من الأفراد يظهر دور الأثرياء في التمويل المباشر والسريع، للعمليات الإرهابية”.
5-التحقق الاجتماعي:
يحظى الأصوليون بمكانة اجتماعية معنوية داخل تنظيماتهم، فوق نظرية النادي الاجتماعي التي وضع فروضها العاملان ديفيد لاين، والتي وضعها لتفسير تحمل أعضاء الجماعات الأصولية للتعذيب، قال إن الجماعات مثل النوادي الاجتماعية تمنح أعضاءها وذويهم مميزات للعضوية ومكانة اجتماعية داخل الوسط الجهادي، كما تمنحهم تراتبية ناتجة عن تضحياتهم لصالح الجماعة.
ومن هذا المنطلق، يمكن فهم أزمة أيمن الظواهري، الذي نشأ وسط حي المعادي الأرستقراطي، لكنه لم يكن من شريحته العليا، ووفق لورانس رايت في كتابه البروج المشيدة، فإن “أي شخص كان يعيش في ضاحية المعادي في خمسينات وستينات القرن العشرين كان هناك شيء واحد فقط يحدد المستوى الاجتماعي ألا وهو عضوية نادي المعادي فقد كان مجتمع المعادي بالكامل يدور حول هذا النادي، ونظرا لأن اسرة الظواهري لم تشترك فيه أبدا فقد ظلت بعيدة عن النفوذ والمكانة الرفيعة في هذا المجتمع” (9).
ومن هذا المدخل يمكن فهم أيضا أسباب انضمام الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب في أوربا ممن يحظون بفرص تعليم جيدة ويكسبون دخلا جيدا، فالضغط الاجتماعي من قبل تيارات غربية تراهم ليسو سكانا أصليين، وعدم حفاظ الآباء على نمط المعيشة لبلدانهم الأصلية، دفعهم للتمرد على النمطين، الغربي الرافض لهم، والشرقي غير المكتمل، عبر نسخة سلفية جهادية، تقدم نسقا متكاملا لتغيير العالم، عبر الأفكار الجهادية، وهو ما ظهر في اعترافات امرأتين سلفيتين، انضمتا لجماعات تكفيرية مسلحة، بعد فترة عدم ممارسة حقيقية لشعائر الدين في هولندا.(10)
5-التفوق في التواصل الاجتماعي:
إزاء هذه الرغبة في التحقق الاجتماعي والبحث عن هوية كما في حالة المرأتين، يبحث الجيل الثاني والثالث من المهاجرين عن منابر دينية، لمعرفة الإسلام، فتبرز فعالية الشبكات الجهادية على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بإمكانياتها المتطورة، وفي ظل تعاطي تلك الأجيال والطبقات القادرة مع التكنولوجيا الحديثة، بقدرتها الشرائية على حيازتها، لتتفوق على المؤسسات الرسمية الدينية والأخرى الأكثر اعتدالا، فتتمكن من الإيقاع بمجموعات كبيرة.
وحققت التنظيمات المسلحة مع نجاحها في استخدام تكنولوجيا التواصل الاجتماعي عدة أهداف من بينها تجنيد أعضاء جدد، عبر بث دعاية ملائمة للسوق الدعائي، والتأثير على خصوم الجماعات سلبيا ببث لقطات الذبح والقتل.
المراجع:
- (توماس هيجهامر: الجهاد في السعودية، قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، الشبكة العربية للأبحاث، 2013، ص198).
- “أوليفية روا: تجربة الإسلام السياسي، دار الساقي 59.
- إرابيان بيونس: 27-2-2014.
- أبعاد التحول في ظاهرة الإرهاب في إقليم الشرق الأوسط، (القاهرة – وحدة التقديرات الإقليمية، المركز الإقليمي للدراسات-السنة الثالثة مارس 2014.
- جريدة الوطن المصرية؛ 2-12-2013.
- لوانس رايت: البروج المشيدة، القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر، ص124
- فضل شاكر-حديث مع العربية نت 14 نوفمبر 2012.
- (القاهرة، وحدة التقديرات الإقليمية، المركز الإقليمي للدراسات، السنة الثالثة مارس 2014 ص 2).
- (البروج المشيدة: ص54)
- (رول مير: السلفية العالمية الحركات السلفية المعاصرة في عالم متغير، الشركة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ص561)