728x90 شفرة ادسنس

  • اخر الاخبار

    Monday, January 26, 2015

    الشباب والعنف السياسي في مصر

    بقلم : أكرم ألفي
    مركز دراسات احوال مصر 
    سعت العديد من الكتابات والتحليلات تحليل أسباب نشوب العنف السياسي في مصر منذ يناير 2011. وأرجعت معظم التحليلات والرؤى مشهد الصدامات المتكرر في مصر إلى حدة الاستقطاب السياسي والتراجع الاقتصادي والانفلات الأمني وتراجع هيبة الدولة وغياب التوافق الاجتماعي واحتدام “الصراع الطبقي”.
    وركزت عدد من الرؤى على شعور الشباب بالإحباط بسبب “سرقة الثورة” مرتين الأولى عن طريق المجلس العسكري والثانية من خلال جماعة “الإخوان المسلمين” ومحاولة الشباب استعادة “الحق المسلوب” ومواجهة مساعي “الإخوان” للتمكين.
    وبجانب الأسباب السياسية والاجتماعية، ناقش البعض ما اعتبره تغييرا في طبيعة الشخصية المصرية عقب الثورة والتحول من الاستسلام والإذعان إلى التمرد والرفض. وتحدث كتابات مطولة عن التغيير السلوكي للشخصية المصرية وبروز ثقافة العنف والخروج من “قمقم القهر”.
    وفي سياق هذا الجدل، تناقش هذه الدراسة عوامل صعود العنف وفقاً لفرضيات مدرسة الديموجرافيا السياسية التي تسعى للربط بين المحددات السكانية “الديموجرافية” والسلوك السياسي ومن ضمنه العنف السياسي، عبر مناقشة علاقة هيمنة المجموعات العمرية من الشباب على الهرم العمري ونمو أعداد الشباب من خريجي الجامعات بالعنف إلى جانب دور نمو المدن والانتقال من الريف للحضر في تزايد احتمالات الميل للعنف السياسي. وتسعى الدراسة لاستكمال الصورة بمناقشة علاقة عدم الاستقرار السياسي واستمرار المرحلة الانتقالية لفترات طويلة بزيادة احتمال استخدام أداة العنف.

        عمر القتال وتضخم فئة الشباب  :

    بلغ عدد الشباب في مصر (من 15 إلى 29 عاماً) خلال عام 2013 نحو 25 مليون نسمة (1)، في مجتمع فتي نحو 54% من سكانه أقل من 24 عاماً. مما يجعل مصر دولة ترتفع فيها مخاطر العنف السياسي بحسب هنريك أوردال وجاك جولدستون.
    وفقاً لأوردال (Urdal) فإن “تضخم فئة الشباب “Youth bulges” في أحد البلدان تزيد من احتمالات فرص ودوافع العنف السياسي، خاصة إذا ترافقت ظاهرة تضخم الشباب بعدد من العوامل منها ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب وسيطرة نظم “شبه الديمقراطية” وتزايد نسبة الاعتمادية في المجتمع  “dependency ratio (2).
     واعتبر جاك جولدستون أن احتمالات العنف والتغيير السياسي ترتفع في المجتمعات التي تمر بالمرحلة الثانية من التحول الديموجرافي ” demographic transition”. وهي المرحلة التي تشهد فيها المجتمعات ارتفاع معدل المواليد وانخفاض معدل الوفيات وبدء التقدم الصناعي وتوافر الخدمات. وهي مرحلة تتسم بارتفاع نسبة الشباب (15 -24 عاماً) واتساع الطبقة الوسطى الشابة المتعلمة التي لا يكون السوق قادر على استيعابها(3).
    وبحسب مدرسة الديموجرافيا السياسية فإن تضخم فئة الشباب في المجتمع “youth bulges”  يعني ارتفاع نسبة المجموعات العمرية “cohorts” ما بين 14 و25 عاماً من إجمالي السكان، مما يجعل المجتمع فتياً. وفي المقابل قامت تسيجاي تيجينو (Tegenu) بتوسيع المرحلة العمرية لتضخم فئة الشباب في الدول النامية ليضم المجموعات العمرية من 15 إلى 29 عاماً (4).  وفي حال تطبيق تعريف تيجينو على مصر فإن نسبة “youth bulges” تصل إلى 29% من السكان. مما يجعل المجتمع المصري يقترب من افتراضية أوردال الشهيرة والخاصة بأن المجتمعات التي يرتفع فيها نسبة الشباب إلى 35% من السكان يزيد فيها فرص انفجار العنف السياسي بنحو 150% مقارنة بالدول التي يكون هيكلها العمري أقرب للدول المتقدمة. 
    ووفقاً لمدرسة الديموجرافيا السياسية فإن تضخم فئة الشباب يعني هيمنة الفئة العمرية في سن القتال على التركيبة السكانية وبالتالي ارتفاع احتمالات العنف. وهنا يلاحظ اريك نيوماير أن الشباب الذكور يمثلون الكتلة الرئيسية من المشاركين في عمليات العنف. وهي نفس وجهة النظر التي تبناها صموئيل هانتينجتون الخاصة بأن من يخرج ليقتل الآخرين هم الرجال في العمر ما بين 16 و30 عاماً.
    ونجد أن حركات العنف السياسي في مصر تمثل تطبيقاً واضحاً لهذه الفرضيات، حيث إن أغلبية المنخرطين في عمليات العنف تتراواح أعمارهم بين 15 و29 عاماً. وعلى صعيد التركيبة العمرية للشباب المنخرطين في الحركات الشبابية التي تبنت العنف فإنها متطابقة، حيث إن عضوية روابط المشجعين “الالتراس” تنحصر في الأعمال بين 15 و22 عاماً. وفي حركة “6 أبريل” يبلغ متوسط أعمار العضوية ما بين 18 و29 عاماً، ولم يتجاوز أعمار أعضاء حركة “بلاك بلوك” 22 عاماً.
    وتظهر بيانات الاشتباكات التي شهدت عنفاً سياسياً خلال الفترة من فبراير 2011 إلى يونيو 2013 إلى أن نحو 80% من المصابين يتراوح أعمارهم ما بين 15 إلى 29 عاماً ونحو 70% من القتلى ينتمون لنفس الفئة العمرية.
    إن ارتفاع نسبة الشباب في مصر وفر “الوقود” للحركات الشبابية خلال السنوات الأخيرة ورفع من احتمالية لجوء هذه الحركات للعنف في ظل هيمنة “جيل القتل” على الفاعلين السياسيين. وعبرت هذه الوضعية عن نفسها في تنافس الكتل السياسية المتصارعة على تجنيد وتعبئة أكبر عدد من الشباب. فهذا الجيل توافق صعوده الديموجرافي مع إعلان انتصاره السياسي وقدرته على حسم الصراعات في لحظة الحسم. وبالنسبة للشباب فإن الطريق المختصر للحسم هو العنف. ولكن لا يمكن القول إن تزايد نسبة الشباب أو “youth bulges” في المجتمع المصري هو المعامل الذي دفع الحركات الشبابية لتبني استراتيجية العنف وتزايد اللجوء للقوة في حسم الصراعات.

                    الشاب المقاتل: المتعلم الباحث عن عمل:

    كشفت مذبحة استاذ مدينة بورسعيد (شمال القاهرة) – التي وقعت في 1 فبراير 2012 ولقي خلالها 72 من روابط مشجعي الأهلي “التراس أهلاوي” مصرعهم- عن عدة حقائق عن هذه الروابط الشبابية أبرزها أنها تتشكل من كتلة شبابية صغيرة السن وجميعهم من الذكور وارتفاع مستويات التعليم بين أعضاء هذه الروابط حيث كان أغلبية الضحايا من طلاب الجامعات وبعضهم من طلاب الجامعات غير الحكومية  (التي تصل مصاريفها السنوية ما بين 5 إلى 10 الاف دولار). هذه البيانات اصطدمت بوعي عدد كبير من المصريين الذي كانوا يفترضون أن أعضاء روابط المشجعين هم من الشباب الأقل تعليماً.
    فالشباب الحاصل على مؤهل جامعي أو المنخرط في التعليم الجامعي يمثل العمود الفقري للحركات الشبابية المصرية التي تتسم بميل للعنف. وهو الأمر الذي ينطبق أيضاً على جماعة “بلاك بلوك” المصرية التي قال أحد قادتها إن أعمار المنخرطين في التنظيم السري يتراوح ما بين 18 و23 عاماً وجميعهم من الطلاب الجامعيين أو خريجي الجامعات(5). كذلك فإن العمود الفقري لحركة “6 أبريل” من خريجي الجامعات وطلاب التعليم العالي.
    الحالة المصرية هنا تتعارض مع فرضية عدد من المدارس الخاصة بدراسة الإرهاب – في الثمانينيات والتسعينيات- حول وجود علاقة طردية بين انخفاض نسبة التعليم والعنف في المجتمعات. وتتطابق مع فرضيات مدرسة الديموجرافية السياسية الحديثة الخاصة بأن ارتفاع مستوى التعليم في المجتمعات الشابة يزيد من فرص العنف.
    وبحسب أوردال فإن انتشار البطالة بين الشباب الحاصل على التعليم الجامعي يدفع نحو إحباط وشعور كتل ضخمة من الشباب المتعلم بالحرمان مما يزيد احتمالات العنف (6).
     ووفقاً لبرينجار ليا فإن “التوسع في التعليم الجامعي بعدد من دول الشرق الأوسط قاد إلى تشكيل مجموعات ضخمة من الشباب المتعلم التي لم ينجح سوق العمل بهذه الدول في استيعابه مما ساهم في توفير بيئة مناسبة لتجنيد هؤلاء الشباب في التنظيمات الراديكالية والعنيفة (7).
    وهي نفس الفرضية التي تبناها جاك جولدستون بشأن تزايد احتمالية عنف المجموعات الشبابية الضخمة مع ارتفاع مستوى التعليم، حيث يري جولدستون أن الارتفاع المطرد في عدد المتعلمين من الشباب يساهم في خلق مناخ للتغيير السياسي. فالشباب الأكثر تعليماً يكون في المشهد الرئيسي للعنف السياسي خلال فترة التغير السياسي.
    ويوضح الفرضية ريتشارد برنجارت بالإشارة إلى أن البطالة في أي مجتمع تضعف شرعية واستقرار النظام السياسي وهذه الظروف تخلق المناخ المناسب للرادكلة بين الشباب الذي لا يكون لديه ما يفقده في المخاطرة للحصول على مكاسب ثورية.
    فارتفاع مستوى التعليم يزيد من الشعور بعدم الرضا حيث يكون الشاب المتعلم أكثر طموحاً وتوقعاً للحصول على مستوى دخل أفضل مما يزيد من حجم الفجوة بين التوقعات وواقع عدم الحصول على عمل. إلى جانب الشعور باحتمال القدرة على التأثير السياسي. فتزايد البطالة الواقعية أو المحتملة بين شباب الخريجين أو الطلاب الجامعيين يزيد من احتمال عدم الرضا وعدم الاستقرار والعنف.
    وبالنسبة لمصر، ووفقاً للبنك الدولي، فإنه “خلال العقدين الماضيين، كان تطور التحصيل الدراسي في مصر من صور الصبغة الديمقراطية للحصول على التعليم وبخاصة في مستويات التعليم الأساسي والثانوي. وتظهر دراسة ثلاثة أجيال في الفئة العمرية 21-24، ممن ولدوا بين الأعوام 1964 و1967، و1974 و1977، و1982 و1985، واستكمل معظمهم تعليمه، أن معدلات إتمام التعليم الابتدائي زادت باضطراد من 43% إلى 69% ومعدلات إتمام التعليم الثانوي من 38% إلى 65%. وزادت معدلات إتمام التعليم الجامعي أكثر من ثلاثة أمثالها من 7% عام 1988 إلى 17% عام 2006 (8). وبلغ عدد خريجي الجامعات المصرية خلال عام 2011 نحو 343 ألف طالب بينما وصل عدد طلاب الجامعات في نفس السنة نحو 1,7 مليون طالب (9). مما يعني أن نسبة الحاصلين على التعليم الجامعي في مصر بلغت بنهاية 2011 نحو 25% من السكان. 
    ونجد أن التزايد المتسارع في عدد خريجي الجامعات والتعليم العالي بمصر ارتفع مع ارتفاع مطرد في نسبة البطالة بين الشباب وخاصة الحاصلين على مؤهلات عالية خلال السنوات الأخيرة. فبحسب البيانات الرسمية لعام 2013 فإن نسبة البطالة في مصر خلال عام 2013 بلغت 13,4% بنحو 3,6 مليون شخص. وكانت أعلى نسبة من المتعطلين تضمها الفئة العمرية بين 20 و24 سنة بنسبة 40%، تليها الفئة العمرية الممتدة بين 25 و29 سنة بنسبة 23%. وبلغت نسبة البطالة بين الحاصلين على مؤهلات جامعية إلى 32,1%.
    هذه النسب تشير بوضوح إلى وجود أعداد ضخمة من خريجي الجامعات المصرية يعانون من عدم توفر فرص العمل وبالتالي تزايد الشعور بالإحباط والغضب تجاه النظام والمجتمع. فالحاصلين على تعليم جامعي يكون لديهم توقعات إيجابية بشأن توفر فرص العمل والحصول على دخل أفضل بل والانتقال الطبقي للأعلى. وينعكس هذا الإحباط -بحسب دان لا جرافي – في تزايد الشعور بالاغتراب عن المجتمع والعملية السياسية وزيادة احتمال عدم الاستقرار والميل لتبني الأفكار والسلوكيات الراديكالية(10). وهي الفرضية التي تتعارض مع طرح باول كوليير (Collier, Paul) الخاصة بأن الشباب الأفقر والأقل تعليماً يكون أكثر ميلاً للانضمام لتنظيمات راديكالية عنيفة بسبب انخفاض تكلفة التجنيد. وهنا يجب الإشارة إلى أن تزايد البطالة بين الشباب ترفع من نسبة الاعتمادية في المجتمع وهو المعامل الذي يشير أوردال إلى أنه معامل حاسم في تزايد احتمالية العنف في المجتمعات(11).
    وبالعودة للمشهد المصري، نجد أن أعدادا ضخمة من الشباب خريجي الجامعات يعاني من الإحباط بسبب تقلص فرص العمل وعدم القدرة على التأثير على العملية السياسية والنخبة الحاكمة. وينعكس هذا الإحباط في الدخول في “حرب جيلية” (Generations clash). ويظهر هذا المفهوم في بيان أصدرته رابطة مشجعي نادي الزمالك القاهري “وايت نايتس” التي أشارت فيه إلى أن ما يحدث من صدامات مع الأمن هو تعبير عن “معركة جيل بأكمله لم يطلب سوى دورة الحياة الطبيعية. لم يطلب سوى أن يكون هذا الجيل وصياً على أمر نفسه فهو أدرى بشئونه”، مشيراً إلى أن الممارسات الأمنية ضد روابط المشجعين ليست حرباً عليهم فقط بل معركة مؤسسات الأمن مع جيل بأكمله الشباب الذي يحترق شوقاً للخلاص من دولة العواجيز بفسادهم ودناوتهم وحقارتهم(12).
    فهذه الحرب الجيلية المفترضة تضع في قيادتها الشباب المتعلم والمحبط بسبب البطالة في مجتمع يضم كتلة شبابية ضخمة. وفي السياق المصري يظهر أن العنف الشبابي يتركز في العاصمة (القاهرة) والمدن الحضرية الكبيرة خاصة في الوجه البحري الأكثر غنى مقارنة الوجه القبلي (صعيد مصر) الأفقر. وهو ما يطرح ضرورة دراسة العلاقة بين عنف الشباب السياسي وظاهرة الحضرة “urbanization”.

                  المدن الفاشلة والعنف السياسي:

    تركزت الصدامات العنيفة بين شباب المتظاهرين والأمن أو بين المجموعات السياسية المصرية المتناحرة في القاهرة والمدن الحضرية الكبرى. فمن بين 65 حادث عنف سياسي اجتماعي ترصدها الدراسة خلال الفترة من 11 فبراير 2011 إلى 30 يونيو 2013، فإن هناك 33 حادثة كانت القاهرة العاصمة هي مسرحها الرئيسي. ومن بين الأحداث الأكثر عنفاً (16 واقعة) استحوذت القاهرة على 12 واقعة بنسبة تصل إلى 75%.
     ويشير دان لا جرافي إلى أن خطر المدن الفاشلة ظهر بوضوح في دوائر الدراسات الأكاديمية والسياسية المتعلقة بالعنف والأمن على غرار تهديد “الدول الفاشلة”. وينقل جرافي عن دراسة لمجلس الأمن الاستخباراتي قولها إن التحول الكبير من الوظائف الزراعية إلى التوظيف في مجال الخدمات والصناعة فإن الشباب يتحرك من الريف إلى المناطق الحضرية بمعدلات تحمل مخاطر جمة (13). فتضخم سكان المدن الحضرية خلال السنوات الأخيرة في الدول الأقل تطوراً قاد إلى ارتفاع حدة الضغوط الخاصة بالمساواة وتزايد الشعور بالغبن الاجتماعي مما يجعل المدن مكاناً أكثر ميلاً لعدم الاستقرار. فالمدن الحضرية الكبيرة أصبحت تضم بين كنفها أعدادا أكبر من الشباب المتعلم والمتعطل وبالتالي تصبح مركزاً للتوترات الاجتماعية في ظل الفوارق الطبقية والاجتماعية الشاسعة والأكثر وضوحاً في الحصر عن الريف.
    وهناك أيضاً عامل الاقتراب من مؤسسات السلطة، حيث إن المدن تظهر فيها السلطة بشكل أكثر تجسيداً ووضوحاً عن الريف مما يوفر الحيز للصدام بين غضب الشباب المحبط تجاه الدولة والسلطة غير القادرة على تحقيق طموحاته بل يعتبرها الحاجز الرئيسي أمام توفير الحياة الكريمة له.  
    وتعد مصر حالة نموذجية للمركزية، حيث يقطن القاهرة الكبرى (محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية) 20 مليون نسمة بأكثر من 25% من السكان وهي نسبة تعد من الأعلى في العالم. ويبلغ عدد سكان مدينة القاهرة وحدها نحو 8,9 مليون نسمة(14) بنحو 12% من السكان. ويقطن نحو 43% من سكان مصر في مناطق حضرية (الجهاز العام للتعبئة والإحصاء) مقابل 57% في المناطق الريفية. وتبلغ نسبة نمو المناطق الحضرية في مصر نحو 1,9 % سنوياً (2000- 2010). وهي نسبة تدلل على استمرار عملية انتقال السكان من الريف للحضر، حيث إن نسبة النمو السكاني في مصر لا تزيد سنوياً عن 1,9% مما يعني أن المدن تستقبل سنوياً مئات الآلاف من الريف في ظل أن الريف يمثل نحو 61,4% من المواليد مقابل 38,6% للحضر. وارتفع عدد سكان المدن في مصر من 22,5 مليون نسمة عام 1990 إلى 34,5 مليون نسمة خلال 2011 بزيادة تصل إلى 65%. بالتوازي بلغ عدد المدن في 2008 أكثر من 218 مدينة مقابل 215 مدينة في عام 1990 وزاد عدد المراكز من 169 إلى 184 خلال نفس الفترة (15).
    ونلاحظ أن توفر الخدمات التعليمية والجامعات بالعاصمة جعلها تستحوذ على أعداد ضخمة من الشباب الحاصلين على تعليم جامعي بلغت بحسب أرقام غير رسمية إلى 30% من قاطنيها. وساهم ارتفاع نسبة التعليم إلى تراجع نسبة الفقر في العاصمة إلى 16% مقابل 26.3% في مصر. 
    وبحسب ريتشارد سينكوتا “إن انتقال كتل سكانية ضخمة من الريف إلى الحضر في مصر خلال العقدين الأخيرين ساهم بشكل مركزي في اندلاع ثورة 25 يناير، حيث أتاحت المدينة لجيل الشباب الفرصة للتعبير عن طموحاتهم وإحباطاتهم والتفاعل مع النخب والإعلام والخروج من حيز العلاقات العائلية والانتماءات الأولية لحيز العلاقات الجيلية والمصالح المباشرة” (16).
    ويشير هنريك أوردال – في هذا السياق – إلى أن “ارتفاع معدل التحضر  (urbanization)يقوي من احتمالات العلاقة الطردية بين تضخم فئة الشباب (Youth bulges) والعنف السياسي (17). وهو ما يفسره جولدستون بأن نمو معدلات التحضر يرتبط بشكل طردي بزيادة البطالة بين الشباب المتعلم والتهميش الاقتصادي. فظاهرة تضخم المدن السريع تنعكس في ارتفاع مستويات الفقر النسبي والبطالة وهما معمالان رئيسيان لعنف الشباب السياسي. ويرى تيجينو  أن معدل التحضر وسرعة نمو المدن يرتبط بشكل مباشر بتركز كتل ضخمة من الشباب، حيث إن هجرة الشباب من الريف للمدينة يمثل عامل رئيس لتزايد احتمالات العنف السياسي. فشباب المدن أصحاب الأصول الريفية – يكونوا أكثر ميلاً للعنف في لحظات عدم الاستقرار السياسي.
    ويدلل على هذه المقولات تحول ميدان التحرير (وسط القاهرة) طوال الأيام الـ18 في ثورة يناير 2011 إلى الساحة الرئيسية للتظاهرات. وعقب إسقاط نظام مبارك كان مسرح أول أحداث العنف السياسي هي القاهرة عبر حصار السفارة الإسرائيلية في مايو 2011 وما تلاهما من محاولة اقتحام ثانية للسفارة في سبتمبر 2011 واندلاع اشتباكات شارع محمد محمود (قرب ميدان التحرير) خلال نوفمبر 2011. وهي الأحداث التي تفجرت في نفس الوقت التي كانت قد اختفت خلاله المواجهات والعنف السياسي فيه غالبية المحافظات المصرية لصالح صعود العنف الطائفي والاجتماعي.
    ويلاحظ في هذا السياق  أنه خلال فترة حكم المجلس العسكري (فبراير 2011 – يونيو 2012) تمركزت الاحتجاجات السياسية العنيفة بشكل رئيسي في القاهرة والإسكندرية، بينما شهدت مرحلة حكم الرئيس السابق محمد مرسي (يونيو 2012- يونيو 2013) اتساعاً واضحاً لخريطة الاحتجاج والعنف السياسي لتشمل العديد من المناطق وخاصة في الوجه البحري.  
    وينعكس مركزية القاهرة على تركيبة الحركات الاحتجاجية الشبابية (محل الدراسة)، حيث يمثل الشباب من أبناء العاصمة أكثر من 35% من أعضاء روابط ناديي الأهلي والزمالك (الالتراس) (18). وبحسب تقرير آخر فإن عدد الألتراس أهلاوي المسجلين يبلغ 360 الفاً منهم 90 ألفاً في القاهرة وحدها بنسبة 25% مع ملاحظة أن مجموعة القاهرة تمثل القسم الأكثر فاعلية وتأثيراً(19). وينطبق نفس الوضع على روابط تشجيع الزمالك “وايت نايست”. وبالنسبة لتنظيم “بلاك بلوك” فيقول أحد قيادات الحركة إن من بين 300 عضواً فاعلين كان نحو 200 منهم في القاهرة. ويشير هنا إلى أن تدشين ظهور الحركة كان في القاهرة خلال مظاهرات 25 يناير 2013. وأن الحركة كانت تمتلك مجموعة ضخمة في المنصورة (محافظة الدقهلية بالوجه البحري) بلغ عددها 40 عضواً(20).  وبالنسبة لحركة “6 أبريل” فإن القسم الذي مال لاستخدام العنف تمركز في القاهرة والاسكندرية والمنصورة أيضاً.
    إن عملية التحضر ومركزية القاهرة لعبت دوراً جوهرياً في ميل الشباب المتعلم والمحبط لاستخدام العنف السياسي. وربما كانت تتجه الحركات الشبابية للمواجهة العنيفة في العاصمة لإدراكها أنها مركز عملية “الحسم” السياسي. وبالتالي فإن تضخم حجم المدينة يمثل معامل رئيسي للعنف في مصر وهو ما يناقض تصور أوردال افترض دوراً ثانوياً للحضرية في انفجار العنف السياسي(21).  

                   المرحلة الانتقالية وخيار للعنف:

    اهتم الباحثون بعلاقة طبيعة النظام السياسي باحتمالات العنف. وقامت الفرضية المركزية على العلاقة الطردية بين النظم الاستبدادية والعنف السياسي. وعربيا هيمنت هذه الفرضية على الكتابات الخاصة بالعنف السياسي، حيث كتب الشيمي إن “الاستبداد من جانب الدولة أو النظم الحاكمة سبب مباشر في خلق ثقافة العنف في المجتمع والدفع بالمواطنين إلى الممارسة الفعلية للعنف والذي يمثل العنف السياسي أحد أشكاله.. الاستبداد يخلق مناخاً مسدوداً ديموقراطياً ولا يكون أمام الناس سوى العنف طريقاً للحصول على حقوقهم.. ذلك أن حرمان القوى السياسية من حق التعبير السياسي الشرعي.. وحق القوى السياسية في الحصول على حقها في تداول السلطة والمشاركة السياسية كل هذا يمثل مناخاً مواتياً للعنف(22). فهذه الفرضية تنطلق من أنه كلما اشتدت استبدادية النظام الحاكم ارتفعت احتمالات اللجوء للعنف السياسي.
    ولكن هنريك أوردال طرح تصورا مغايرا -عبر دراسته للعنف السياسي – يقوم على وجود علاقة عكسية بين النظم الأكثر ديمقراطية والأكثر استبدادية واحتمالات العنف السياسي في مقابل وجود علاقة طردية بين النظم شبه الاستبدادية والعنف(23). واستند أوردال في تلك الفرضية على أن النظم الديكتاتورية أكثر قدرة على التحكم في المجتمع وغلق إمكانية التعبئة والحشد للحركات السياسية والاجتماعية. في المقابل، فإن النظم شبه الاستبدادية “الاوتوقراطية” تمنح مساحة للتعبير والحشد دون السماح للشباب المتعلم بالتأثير والتداخل في عملية صنع السياسات مما يزيد من إحباط هذه الكتلة “الحرجة” والمؤثرة ويدفعها لاستخدام العنف في مواجهة السلطة. ومن جانبه، يرى جاك جولدستون أن “استبعاد مجموعات الشباب الضخمة من المشاركة في العملية السياسية يدفعهم للانخراط في سلوكيات صراعية عنيفة في محاولة لفرض الإصلاح الديمقراطي(24).
    هذه الفرضيات يمكن أن أستخدامها في تفسير ما حدث في مصر، حيث كان النظام السياسي المصري خلال العقد الأول من القرن الحالي عاش أزمة النظم “شبه الاستبدادية” عبر فتح مساحة أكبر لحرية الرأي والتعبير والتعبئة والحشد دون أن يمنح كتلة الشباب المتضخمة “youth bulges” مساحة للمشاركة السياسية وإغلاق كافة أبواب التأثير على السياسيات العامة وهو ما ظهر جلياً في الانتخابات البرلمانية (2010) التي سعى خلالها النظام إلى منع تمثيل أي أطراف معارضة في السلطة التشريعية. وهي الانتخابات التي ساهمت بشكل مباشر في التعبئة والحشد لمظاهرات 25 يناير وما تخللها من عنف مباشر ضد السلطة يومي 27 و28 يناير 2011 وانتهت باسقاط نظام مبارك. ولكن ماذا عن العنف في المرحلة الانتقالية؟
    دخل النظام السياسي المصري في مرحلة انتقالية ممتدة منذ فبراير 20100. والدراسة تفترض أن العنف السياسي تزيد احتمالاته في المراحل الانتقالية مقارنة بالنظم الاستبدادية وشبه الديمقراطية الاوتوقراطية. فالمراحل الانتقالية توفر بيئة عدم استقرار وصراع مفتوح على السلطة، حيث يسعى كل طرف إلى انتهاز الفرصة للحسم برسم شكل وطبيعة النظام السياسي الجديد.
    وفي هذا السياق، تتبني الدراسة عدداً من أطروحات دوناتيلا ديلا بورتا (Porta)  حول العنف السياسي للحركات الاجتماعية الخاصة بالدوافع وأشكال العنف. فبورتا تطرح فقدان الفرص السياسية (Political Opportunities) كأحد أهم العوامل التي تدفع الحركات الاجتماعية لتبني سلوك احتجاجي عنيف. وتشير  بورتا إلى أن استبعاد قوى احتجاجية اجتماعية من النظام المؤسسي وعدم السعي لدمجها في سياق النظام الديموقراطي يساهم في جعل الحركات الاجتماعية أكثر عنفاً (25). وتوضح بورتا أن ظاهرة “شرعنة العنف الدفاعي”    (legitimization of defensive forms of violence)، تبرز على قاعدة “الدفاع” في مواجهة أجهزة الدولة القمعية.
    بالتوازي تطرح بورتا أن عملية “الرادكلة” وتبني استراتيجية العنف تنبع أيضاً من الصراعات داخل المجموعات الاجتماعية والسياسية، حيث عادة ما تخرج الكتل الراديكالية عبر انشقاق من كتل أكبر أو في سياق تراجع حركات الاحتجاج مما يدفع مجموعات أكثر راديكالية لمحاولة إثبات وجودها ومواجهة الإحباط بايعاز الفشل في تحقيق الهدف النهائي إلى عدم جدوى الوسائل السلمية للاحتجاج.
    وثالثاً فإن بورتا تفترض أن استراتيجية العنف تنبع من نقاش جماعي وليس بتوجيه فردي فهي نتاج ديناميكية التفاعل بين المجموعات الاجتماعية أو السياسية التي تنتهي لاستنتاج ضرورة العنف وهو ما يتطلب في كثير من الأحيان ايديولوجية “رافضة” على مثال نمط الماركسية اللينينية.
    إن تطبيق هذه الفرضيات على عنف الحركات الشبابية في مصر خلال المرحلة الانتقالية يكون كاشفاً. فأحد العوامل التي دفعت الحركات الاحتجاجية إلى تبني العنف بعد فترة من السكون بعد عزل مبارك (11 فبراير 2011) كان إدراك هذه المجموعات من الشباب أنه تم استبعادها عمداً عبر تحالف المجلس العسكري الحاكم مع تيار الإسلام السياسي من خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية (مارس 2011) وما تلاها من انتخابات برلمانية. وفي المقابل، كان ظهور مجموعة مثل “بلاك بلوك” على الساحة تعبيراً عن نقاش جمعي بين عشرات من الشباب المنخرط في الحركات الاحتجاجية السياسية منذ 25 يناير الذي وجد أن الوسائل السلمية ليست ناجعة في مواجهة جماعة “الإخوان المسلمين”.
    إن بروز تكتيك العنف بين المجموعات الشبابية منذ منتصف عام 2011 يمكن تفسيره بالأساس إلى شعور أعداد متزايدة من الشباب الذي انخرط بقوة في ثورة 25 يناير أنه تم استبعاده وأن الاحتجاج السلمي ليس قادراً على خرق التحالفات الجديدة. وهو ما دفع هؤلاء الشباب إلى “شرعنة العنف” وارتفعت وتيرة العنف  مع منح المجتمع تفويضاً بالعنف في مواجهة نظام “الإخوان المسلمين” خلال مرحلة تولي محمد مرسي السلطة.
    ولاحظ الباحث سامر سليمان في هذا السياق أن “الوعي العام يتسامح مع العنف رهاناً على أن مرحلة انتقالية ستنقضي لنبدأ صفحة جديدة. والمشكلة أن السلطة الانتقالية بجناحها العسكري القائد هي غير خبيرة في استخدام العنف على المستوى الداخلي الأمر الذي من الممكن أن يهد المعبد على كل من فيه(26).  
    فمن سمات المرحلة الانتقالية أن الرأي العام يغير موقفه من العنف وأطرافه بشكل دراماتيكي، فبينما يمنح تفويضاً للسلطة الانتقالية باستخدام القوة ضد معارضيها لبعض الوقت فإنه قد ينزع  – في لحظة مغايرة وغير بعيدة زمنياً  – عن السلطة هذا التفويض ويمنحه للمعارضة أو الحركات الشبابية. وظهرت الحالة الثانية في مصر بشكل جلي خلال فترة حكم محمد مرسي، حيث كان الإعلام والرأي العام متسامحاً مع عنف الحركات الشبابية في مواجهة السلطة. وكان هناك ما يمكن وصفه بقبول عام بقيام عدد من الشباب بحرق مقار الإخوان وجناحها السياسي “حزب الحرية والعدالة”. وهو التسامح الذي دفع جماعة الإخوان المسلمين – قبل عزل مرسي- إلى مطالبة المعارضة والإعلام برفع الغطاء عن العنف. أو بتعبير آخر نزع مشروعية عنف الحركات الشبابية ضد مقار الإخوان.
    هكذا شهدت مصر ما يمكن وصفه بتغير موقف الرأي العام والجمهور العادي من ممارسة العنف عبر فترات المرحلة الانتقالية. وهي الوضعية التي كان لها تأثير بالغ على مواقف المجموعات الشبابية  من العنف. ففي المرحلة الانتقالية تتأرجح الحركات الشبابية بين استخدام العنف في مواجهة السلطة والرأي العام معاً، وبين تبنى السلوك العنيف في مواجهة السلطة مع تأييد الرأي العام. بمعنى أوضح أن الحركات الشبابية قد تلجأ للعنف في لحظة تراجع الحشد الجماهيري لإثبات وجودها ومواجهة الإحباط الذاتي. وفي لحظة مغايرة يكون العنف هو خيار الجمهور العام الذي يجعله يمنح تفويضاً للحركات الشبابية في ممارسة العنف السياسي.

                     التنظيم والأيديولوجية والخبرات السابقة:

    تساهم الخبرات السابقة والشكل التنظيمي والأفكار الجامعة للمجموعات السياسية في تحديد احتمالية نزوعها إلى استخدام العنف وقدراتها على تبني تكتيكات عنيفة. وبالنسبة للحركات الشبابية المصرية فإن مجموعات “الألتراس” هي الوحيدة التي توفرت لها الخبرات السابقة والشكل التنظيمي التي تؤهلها لاختيار تكتيك العنف. في المقابل اقتصرت خبرات مجموعات شبابية أخرى على ما شهدته أحداث ثورة 25 يناير 2011 على مواجهات عنيفة مع قوات الأمن خاصة يومي 27 و28 يناير.
    وتنظيمياً، عانت الحركات الشبابية من حالة السيولة وعدم وجود مركز قيادة واضح مما دفع لظهور “العضوية المتعددة” بانتماء عدد كبير من الشباب الذين انخرطوا في أحداث الثورة لعدد من التنظيمات في نفس الوقت دون التقييد بمجموعة واحدة. وهي الظاهرة التي قادت لارتباك فعل الحركات الشبابية، حيث إن عددا من أعضاء مجموعة مثل 6 ابريل ينتمون في نفس الوقت لمجموعات “الالتراس” وانخرطوا أيضاً في مجموعات “بلاك بلوك” أو انضموا لتنظيم سياسي راديكالي مثل “الاشتراكيين الثوريين”. وتأثر الفعل السياسي لهؤلاء الشباب بـ”القطبية المتعددة” للتنظيمات والحركات التي ينتمون لها. وبالتوازي جعل خبرات الشباب الفردية هي أساس الخبرات الجماعية للحركات الشبابية مقابل تراجع تأثير العقل الجمعي للحركة والخبرات المشتركة.
    وبالنسبة لمجموعات “الألتراس” نجد أن روابط مشجعي الأندية ظهرت في 2007. بدءا بالتراس “وايت نايتس” الذي كان الأول في مصر ثم بعده مباشرة ظهر الألتراس الأهلاوي وكان أول ظهور للألتراس الأهلاوي في المدرجات يوم 13 إبريل 2007 في مباراة الأهلي وإنبي في الدوري المصري(27). 
    ولا توجد رواية واحدة أو مؤكدة لنشأة الألتراس في العالم، وإن كانت بعض التقارير تشير إلى أن بعض الجماعات المتعصبة ظهرت في الصين وأمريكا الجنوبية، أما الظهور الأول في أوروبا فينسب من مجموعة أنصار نادى هايدوك سبيلت فى كرواتيا الذين اتخذوا من التطرف طريقة للتشجيع خلال مباراة 29 نوفمبر 1950 ضد الغريم التقليدي “النجم الأحمر”، حيث قام أنصار الفريق، وبشكل جماعي ومنظم بدخول أرضية الميدان بعد صفارة النهاية. وبدأت ظاهرة الألتراس تأخذ طريقها إلى الملاعب الإيطالية أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات في الملاعب. وكانت مجموعة Fossa Dei Leioni الخاصة بنادي ميلان هي أول مجموعة ألتراس ظهرت وذلك عام 1968.. وهناك تقارير تشير إلى أن أول مجموعة من ألتراس إيطالية ظهرت في مدينة تورينو عام 1951، والتي كانت تعرف باسم Fedelissimi Granata. أما أول مجموعة أطلق عليها اسم ألتراس فكانت تابعة لفريق سمبدوريا عام 1969، وهو العام الذي شهد ظهور ألتراس إنتر ميلان واسمه Inter Boys(28).
    ونجد أن “الألتراس” في مصر يتبنى تنظيماً شبه عنقودي. ويشير محمود الجوهري إلى أن الألتراس عبارة عن “دائرة كبيرة لها مركز. وهذا الدائرة الكبيرة داخلها عدد من الدوائر، التي يحدد قربها أو بعدها عن المركز مدى تداخلها في عملية صنع القرار داخل المجموعة. وتحديد المسؤولين عن صنع القرار أو القرب من مركز الدائرة يتحدد باعتبارات كثيرة منها الخبرة في إدارة شئون المجموعة وكل ما يتعلق بها سواء في نواحي التشجيع وإعدادات الدخلات أو الشؤون المالية، الأقدمية وطول الفترة الزمنية داخل المجموعة ومن أجلها اعتبار آخر، هناك أيضاً مدى ما يتمتع به العضو من قدرة على الإبداع والابتكار سواء في الهتافات أو الأغاني، إلا أن أهم هذه الاعتبارات مدى قدرة العضو على تخصيص وقت أكبر للمجموعة وإدارتها وأنشطتها، فكلما توافرت هذه الاعتبارات، كانت فرص العضو أكبر في القرب من مركز الدائرة ومن ثم المشاركة في عملية صنع القرار”.(29)
    هذا الشكل التنظيمي شبه العنقودي يساهم بشكل واضح في إدارة فعاليات الألتراس التي يشترك فيها أعداد ضخمة من الشباب وفي نفس الوقت الحفاظ على التناغم والتناسق في الفعل. وكلمة السر في الربط بين القيادة والأفراد هو “الكابو”. وهو الشخص المنوط له بقيادة المجموعة أو “سكشن” (section)  حيث يقوم “الكابو” بإدارة شئون مجموعة تضم مئات من المشجعين في منطقة معينة إلى جانب التنسيق مع قادة المجموعات الأخرى. ويظهر دور الكابو واضحاً في الدخلات والتشجيع، حيث يتم تقسيم الأدوار في الدخلات خلال المباريات بين مجموعات الألتراس ويكون “الكابو” هو المسئول عن تنفيذ مجموعته مهمتها بشكل متناسق مع المجموعات الأخرى. وخلال المباراة يقود “الكابو” التشجيع والهتافات ويلاحظ بوضوح وجود تناغم كبير بين قيادات المجموعات “الكابوهات” وبين “الكابو” ومجموعته.
    وبحسب محمود عبده علي فإنه”لا يوجد للألتراس رئيس، بل يتكون من مجموعة من المؤسسين الذين سرعان ما يتراجع دورهم بعد أن تصبح المجموعة قادرة علي الوقوف علي أرض صلبة. ويدير العمل داخل الألتراس مجموعات عمل صغيرة Top Boys تختص كل منها بتنظيم أنشطة المجموعة من تصميم وتنفيذ اللوحات الفنية وقيادة التشجيع داخل المدرجات وتنظيم الرحلات والإشراف على مصادر تمويل المجموعة(30).
    وانعكس الشكل التنظيمي وقدرته على ضمان شكل للفعل الجماعي الموحد والمتناسق على قدرة روابط مشجعي الأندية الرياضية في المبادرة بأعمال “عنف” اتسمت بالتنسيق والمفاجأة كما حدث في القيام بشل حركة مترو الأنفاق بالعاصمة عشية إصدار الأحكام القضائية على المتهمين في مذبحة بورسعيد الشهيرة في يناير 2013.
    وساهم في تعظيم قدرات “الألتراس على تبني تكتيكات العنف الخبرات السابقة الطويلة في مواجهة الأمن منذ 2007. ويشير الجوهري إلى أنه “منذ نشأة المجموعات في مصر حاولت الشرطة بكل السبل التضييق على نشاط الألتراس داخل الأستاد وخارجه، فقبل الثورة كان أفراد المجموعة يتعرضون لعمليات تفتيش مهينة أثناء دخولهم المدرج، ومنعهم من اصطحاب أدوات التي يعتمدون عليها في التشجيع مثل السنانير وجلاد الدخلات، حتى وصل الأمر إلى منعهم من اصطحاب زجاجات المياه معهم إلى المدرج(31). فعلاقة الألتراس بالشرطة اتسمت بالعدائية مستندة على نظرة التوجس لدى الأمن نحو الألتراس بسبب خشية قيامهم بتأجيج العنف في الملاعب وعدم السيطرة عليهم وقدراتهم الكبيرة على الحشد والتنظيم مما دفع الأمن لاستخدام العنف في مواجهتهم. في المقابل، تبنت روابط مشجعي الأندية شعاراً موحداً ضد قوات الأمن ظهر بكثافة في رسوماتهم ودخلاتهم في الملاعب هو  (ACAB)اختصاراً لـ(All Cops Are Brastards) أي “كل رجال الأمن أوغاد”.
    فمن هنا يمكننا فهم أفكار الألتراس، فروابط المشجعين ليس لها أيديولوجية جامعة بل تقوم في مصر على فكرتين أساسيتين هما الانتماء للفريق الكروي والتمرد. وبحسب محمود الجوهري فإن ” الانتماء الشديد (للألتراس) نجد تفسيره في حالة الأغتراب التي سادت ليس فقط مصر بل الكثير من الدول العربية، حالة اغتراب عن الدولة.. فكان لابد أن لهذا الشباب الصغير أن يخلق كيان أو فكرة ينتمي لها”. والركن الثاني هو التمرد ورفض السيطرة من جانب السلطة ومعاداة قوات الأمن.
    ويشير البعض في هذا السياق إلى أن مجموعات “الألتراس” المصرية مخترقة من جانب مجموعات أيديولوجية وبالتحديد اختراق الإخوان المسلمين لروابط مشجعي النادي الأهلي واختراق المجموعات السلفية التي تنتمي لحازم صلاح أبو إسماعيل(32). وهو الأمر الذي يتنافى مع هدف تشكيل “الألتراس” الرئيسي وهو تشجيع الأندية الكروية. ولكن كما سبق أن ذكرنا فإن تعدد الانتماءات للشباب أو “العضوية المتعددة” انعكست في انتماء عدد من “الكابوهات” لفصائل سياسية معينة مما دفع بوسائل إعلامية لتوجيه هذه الاتهامات للألتراس. ولكن إجمالاً فإن روابط مشجعي الأندية في مصر لا ترتبط تنظيميا أو أيديولوجياً بأي من الفصائل السياسية وتحكمها فقط فكرتا الانتماء للنادي والتمرد.
    أما بالنسبة لمجموعات “بلاك بلوك” اقتصرت خبراتها على أحداث ثورة يناير 2011، حيث كان كافة أعضاء هذه المجموعات ينتمون حصراً لتجربة الثورة. وتبني مؤسسو هذه المجموعات التنظيم العنقودي الذي يقوم على وجود قيادة لكل مجموعة منفصلة مع الحرص على عدم كشف هوية أعضاء التنظيم في أي مجموعة للمجموعة الأخرى. وهيمنت فكرة التمرد ورفض سلطة الإخوان على الأفكار المؤسسة للبلاك بلوك، حيث كان الجامع الوحيد لهؤلاء الشباب هو العداء للإخوان. وحرص مؤسسو “بلاك بلوك” على عدم وضع إطار أيديولوجي للمجموعة لفتح المجال أمام تجنيد شباب ينتمون لحركات وتنظيمات سياسية مختلفة يجمعهم الهدف الرئيسي وهو إسقاط سلطة الإخوان.
    ويلاحظ هنا أن شباب بلاك بلوك الذي ينتمي لثورة يناير 2011 استعار اسم المجموعة وشعارها وزيها من الحركات الفوضوية الأوروبية والأمريكية التي ظهرت خلال الثمانينات دون أن يتبنى إطارها الأيديولوجي وهو ما يرجع بالأساس للعلاقة الوثيقة بين هؤلاء الشباب والفضاء الاجتماعي وسعيهم لخلق نوع من “البروباجندا” التي يوفرها تبني اسم وشعار وزي معروف عالمياً ولكن في المقابل لم ينخرط هؤلاء الشباب في حوار واضح حول الأساس الأيديولوجي لهذه المجموعات في أوروبا والولايات المتحدة. وربما كان المشترك الرئيسي بين “بلاك بلوك” مصر وحركات “بلاك بلوك” الغربية بجانب تبني العنف هو أن هؤلاء الشباب مثلهم مثل نشطاء بلاك بلوك الولايات المتحدة كانوا نشطاء في اعتصامات وحركات سلمية ولكنهم أكتشفوا عبر خبرتهم الذاتية أن الاحتجاج السلمي غير قادر على إحداث التغيير المأمول وبالتالي لجأوا إلى تكتيك العنف. ولكن في المقابل، فإن النجاح الذي حققته حركات “بلاك بلوك” إعلامياً خلال مظاهرات سياتل (1999) وخلال مظاهرات مؤتمر دول الثمانية الصناعية الكبري في 2007 بسبب استخدام تكتيك العنف تكرر مع حركة “بلاك بلوك” المصرية التي تحولت إلى أيقونة إعلامية عقب إعلان تأسيسها وانخراطها في أعمال العنف ضد الإخوان خلال النصف الأول من عام 2013.
    وربما كانت مجموعات “بلاك بلوك” المصرية قصيرة حيث لم تستمر أكثر من 6 أشهر، فقد بدأت بصفحات على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” باسم “الكتلة الثورية السوداء” عقب هجوم مجموعات من “الإخوان المسلمين” على معتصمين من التيارات والأحزاب العلمانية أمام قصر الرئاسة “الاتحادية” في ديسمبر 2012 إلى جانب ظهور ما عرف بـ”ميليشات حازمون” الإسلامية التي قامت بحصار مدينة الإنتاج الإعلامي (استديوهات القنوات الفضائية بالقاهرة).
    وكان النقاش على صفحات “الكتلة الثورية السوداء” يدور حول أهمية التصدي لميليشيات المجموعات المنتمية للتيار الإسلامي. وكان بيانها الأول يشدد على أن هدفها هو “إسقاط نظام الإخوان المسلمين وذراعه العسكري”. وكان من البارز أن المجموعة أكدت على عدم تعرضها لرجال الشرطة والجيش ولكنها حذرت من أن بلاك بلوك لن تتهاون في الرد على وزارة الداخلية إذا ما واجهتهم. وكان الظهور الأول لشباب “بلاك بلوك” في الشارع المصري يوم 25 يناير 2013 خلال مهارات الاحتفال بالذكرى الثانية للثورة، حيث تجمع العشرات منهم في ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة مرتدين الملابس والأقنعة السوداء الشهيرة.
    وبالنسبة للشكل التنظيمي فإن “بلاك بلوك” تبنت شكلاً تنظيمياً عنقودياً تعتمد على تشكيل مجموعات منفصلة وصل عددها إلى 14 مجموعة لا تعرف بعضها البعض وتتشكل كل مجموعة من 20 إلى 30 فرداً. ومنح هذا الإطار التنظيمي للمجموعة حرية الحركة وعدم القدرة على الكشف عن قياداتها بسهولة. وانحصرت الخبرات السابقة لشباب “بلاك بلوك” على تجربة مواجهة الشرطة خلال أحداث يناير 2011 وما تلاها خاصة مصادمات شارع محمد محمود (وسط القاهرة قرب وزارة الداخلية) في نوفمبر 2011.
    أما بالنسبة لحركة “6 أبريل”، فإننا نجد أن هذه الحركة تأسست – عقب إضراب عمال المحلة الكبرى الشهير في 6 أبريل 2008- على يد مجموعة من الشباب ينتمون لمدارس فكرية وسياسية مختلفة وأغلبهم لم يأت من خلفية سياسية أو مارس العمل السياسي من قبل. واشتهرت هذه الحركة خلال ثورة يناير 2011 حيث ضمت كتلة ضخمة من الشباب الذي قاد المظاهرات وتحولت إلى أحد “أيقونات” الثورة المصرية.
     والإطار التنظيمي لحركة “6 أبريل” قريب من الحركات الاجتماعية الأوروبية حيث تتشكل قيادة مركزية بجانب وجود مجموعات في كل منطقة لها قياداتها ولها صلاحيات اتخاذ القرار. وتنظيم “6 أبريل” تنظيم مفتوح حيث لا يضع شروطاً خاصة للعضوية مما يجعله كياناً جامعاً للشباب أكثر منه تنظيما حديديا.
     وهذا البناء التنظيمي في ظل عدم وجود مظلة أيديولوجية محددة للحركة جعلها الأقرب للحركات الاجتماعية في أوروبا منها للتنظيمات الحزبية الضيقة. وكان هذا الإطار الفكري الواسع والشكل التنظيمي دافعاً لتجنب الحركة الدفاع عن العنف رغم انخراط العديد من أعضائها خلال التظاهرات في صدامات عنيفة مع قوات الأمن المصرية. فالحركة تتبنى شعار “اللا عنف” كشعار حاكم لحركتها، حيث إن تبني تكتيك العنف يتناقض مع العضوية الواسعة والشكل التنظيمي المرن للحركة.
    يتضح أن أي من الحركات الشبابية المصرية التي انخرطت في عنف “هجومي” أو “دفاعي” لم يكن لها إطار أيديولوجي محدد بل “التمرد” مما يتناقض مع فرضية بورتا الخاصة بأن العنف يستلزم أيديولوجية “رافضة” بل كان الحاكم للنزوع للعنف لدى هذه الحركات هو مواجهة عدو محدد بالنسبة للألتراس كان الأمن أما بلاك بلوك فكان العدو هو الإخوان المسلمين. في المقابل حجم الإطار الجمعي لحركة “6 أبريل” نزوعها لتكتيك العنف رغم انخراط أعداد ضخمة من عضويتها في مواجهات شرسة مع الأمن أو عناصر الإخوان المسلمين. 

    المراجع:

    (1) بيانات الجهاز المركزي التعبئة العامة والإحصاء المصري، القاهرة، أغسطس2013 .
    (2) Urdal, Henrik (2006)  A Clash of Generations? Youth Bulges and Political Violence, International Studies Quarterly 50:p609.
    (3) Goldstone, Jack , Kaufman, Eric P AND Toff, Monic Duffy (2012) Political Demography: How Population Changes Are Reshaping International Security  and  National Politics , Paradigm Publisher. P9.
    (4) Tegenu, Tsegaye (2011) The Youth Bulge, Rapid Urbanization and Political    Violence: Understanding Egyptian Revolution. (http://aigaforum.com/articles/understanding_egypt_rev.php.
    (5) مقابلة مع قيادي بحركة “بلاك بلوك” رفض نشر اسمه بسبب سرية التنظيم وتجريمه قانوناً.
    (6) Urdal, Henrik (July 2004) The Devil in the Demographics: The Effect of Youth Bulges on Domestic Armed Conflict, 1950-2000, Social Development Paper , The World Bank, No14.
    (7) Lie, Brynjar (2005) Globalisation and the Future of Terrorism: Patterns and Predictions. Routledge.
    (8) بنك الدولي، التعليم في مصر: التباين في الفرص على مدى ثلاثة أجيال، 2012. الرابط:http://menablog.albankaldawli.org/education-egypt-inequality-opportunity-across-three-generations-arabic
    (9) بيانات الجهاز المركزي التعبئة العامة والإحصاء المصري، القاهرة، سبتمبر2012  .
    (10) LaGraffe, Dan (2012) the youth Bulge in Egypt: An Intersection of Demographics, Security, and the Arab Spring, Journal of Strategic Security, Vol. 5 Issue 2:p72.
    (11) Urdal, Henrik (2006)  A Clash of Generations? Op.Cit, pp607-629.
    (12) بيان “وايت نايتس”، صحيفة المصري اليوم ، 24 أكتوبر 2013 الرابط:
    http://www.almasryalyoum.com/node/2232751  
    (13) LaGraffe, Dan (2012) the youth Bulge in Egypt, Op.Cit, p70
    (14)  البوابة الالكترونية لمحافظة القاهرة. الرابط:
      http://www.cairo.gov.eg/MainPage/DispProvinceInLines.aspx?ID=5
    (15) أكرم الفي، كيف يصوت المصريون: الديموجرافيا السياسية والسلوك التصويتي بعد ثورة 25 يناير، كراسات استراتيجية، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة، ص 11.
    (16) Cincotta, Richard, life begins after 25: demography and the social timing of the Arab Spring, Foreign Policy Research Institute, Jan 2012.
    (17) Urdal, Henrik (2006)  A Clash of Generations? Op.Cit, p 613..    
    (18) مقابلة مع أحد قادة رابطة مشجعي نادي الزمالك “وايت نايتس”.
    (19)  تقرير: مجموعات الألتراس تجذب الساسة وتقلق السلطة، موقع سي إن إن باللغة العربية، 25 فبراير 2013.
    الرابط:http://arabic.cnn.com/2013/middle_east/1/26/ultras.egypt/
    (20)   مقابلة مع أحد قيادات “بلاك بلوك” في القاهرة بتاريخ 29 أكتوبر 2013.
    (21) Urdal, Henrik (2006)  A Clash of Generations? Op.Cit, p 624.
    (22) محمد نبيل الشيمي، العنف السياسي في العالم العربي…دواعيه وتداعياته، 19 مايو 2010، موقع الحوار المتمدن. الرابط:
      http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=215970
    (23) Urdal, Henrik (2006)  A Clash of Generations? Op.Cit, p613.
    (24) Goldstone, Jack (2001), demography, Environment and Security. In Environmental Conflict, edited by Paul F. Diehl. Boulder. 

    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك
    Item Reviewed: الشباب والعنف السياسي في مصر Rating: 5 Reviewed By: Unknown
    Scroll to Top