المؤامرة جزء من التاريخ الإنساني ولا يمكن إنكار وجودها، ولكن التعامل مع المؤامرة باعتبارها المفسر الوحيد أو الأول للأحداث داخلية وخارجية يدفع بمن يحمل هذا الرأي إلى الوقوع في أسر هذه النظرية، فلا يرى في المخالف له داخليا والمغاير له دوليا إلا متآمر يسعى إلى القضاء عليه أو الحط منه. وللوقوع في أسر نظرية المؤامرة جذور ثقافية وسياسية، فهناك ثقافات تبني نظريات كاملة على مؤامرات الآخرين وترى أن كل ما تتعرض له من مشاكل أو عثرات وربما كوارث إنما هو جزء من مؤامرة كبرى تستهدف النيل من المستهدف، فحيثما وقعت مصيبة أو كارثة آو حدثت انتكاسة أو فشل، فالحجة جاهزة هي مؤامرة الآخرين النابعة من الحقد والكراهية.
أيضا لعبت النظم السياسية دورا كبيرا في تغذية نظرية المؤامرة، فقد تلقفت الجذر الثقافي الممهد للوقوع في أسر نظرية المؤامرة وقامت بتغذيته والنفخ فيه، فنحن لم نحقق التقدم الاقتصادي بسبب مؤامرات الصهيونية العالمية والغرب الحاقد، ولم نطور تعليمنا نتيجة محاربة الغرب الحاقد علينا، ولم نسجل مكانة متقدمة على أي مقياس لترتيب الدول الأكثر رقيا سواء في الديمقراطية، الحرية، التسامح، احترام حقوق الانسان نتيجة مؤامرات الغرب الحاقد علينا، واحتلت دولنا صدارة الترتيب العالمي لكافة القوائم الدولية في الفساد والرشوة والتحرش الجنسي وحوادث الطرق وكوارث القطارات أيضا بسبب الصهيونية العالمية والغرب الحاقد علينا الذي يريد استهدافنا.
غذت نظم الحكم هذه النظرية حتى تنسب الفشل والاخفاق إلى مؤامرات الخارج، وحتى تؤجل أي استحقاق في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان إلى ما بعد افشال مؤامرات الغرب. لقد باتت نظرية المؤامرة تعشعش في عقول وقلوب غالبية العرب بصرف النظر عن موقعهم الطبقي وما نالوا من تعليم، فكل مرحلة مر بها المواطن العربي وكل أداة من أدوات التنشئة أضافت له بعدا جديدا من أبعاد نظرية المؤامرة. أبدعنا كمصريين في تخيل أبعاد ومكونات المؤامرة العالمية علينا ووصل الخيال إلى درجة المرض، وكان منطقيا بعد ذلك أن يتحول فائض المؤامرة إلى الداخل فتكون المؤامرة هي المفسر لكل ما نتعرض له من حوادث وأحداث وتطورات سلبية، وتصبح المؤامرة وراء كل اخفاق وفشل.
و أدى فوز جماعة الاخوان المسلمين والتيار السلفي بغالبية مقاعد البرلمان المنحل ثم فوز مرشح الجماعة محمد مرسي بمنصب الرئيس إلى تغذية نظرية المؤامرة وتحقيق قفزة نوعية في جعل غالبية المصريين أسرى لنظرية المؤامرة، فعجز الجماعة عن تحقيق الأمن جعلها تفرط في الحديث عن الطرف الثالث وتحمله كامل المسؤولية عن غياب الأمن وتغييبه، والعجز عن تلبية مطالب البسطاء في العدالة الاجتماعية جعل الجماعة تبالغ في الحديث عن الدولة العميقة التي تتآمر على الرئيس وتريد افشاله وجماعته، ثم كان التحول الأكبر والأخطر استخدام الدين في تمرير مكونات نظرية مؤامرة، وبعد أن جرى الحديث عن الغرب الصليبي والصهيونية اليهودية، جاء زمن الحديث عن مؤامرات المصريين الأقباط، فقادة الجماعة وعدد من رموز التيار السلفي تحدثوا عن أن غالبية متظاهري ومعتصمي الاتحادية ضد الدكتور مرسي هم من الأقباط، وهناك من ناشد الأقباط العودة إلى الصف الوطني، وهو قول يحمل اتهاما بالخروج عن هذا الصف، وهناك من رفع دعوى ضد البابا تواضروس الثاني متهما إياه بتحريض المسيحيين على الخروج ضد النظام في الخامس والعشرين من يناير ٢٠١٣.
ووصل الوقوع في أسر نظرية المؤامرة إلى حافة الجنون خلال مرحلة حكم المرشد والجماعة، وخلال هذه المرحلة صعدت وسائل الاعلام التابعة للجماعة من استخدام مكون التخوين ومفردات نظرية المؤامرة، ومثلما كانت الفتن الدينية والطائفية في عهدي السادات ومبارك صناعة نظام، فأن تضخيم نظرية المؤامرة والدفع بها كي تكون المفسر الوحيد أوعلى الأقل الأول للتفاعلات ألدولية والمحلية كانت منتج جماعة الإخوان ورفاقها.
وفي تقديري أن مصر عرفت مع الرئيس عبد الفتاح السيسي عملية منظمة لتفكيك نظرية المؤامرة ومنحها الحجم الحقيقي الذي تستحقه، فالمؤامرة موجودة منذ فجر التاريخ والأمم تتآمر على بعضها البعض، لكن المؤامرة ليست في اتجاه واحد قاصرة على ثقافة أو حضارة واحدة، فالمؤامرة جزء من تاريخ كل الأمم والحضارات والثقافات، ومشكلتنا الحقيقية أننا أقل شعوب الدنيا قراءة للتاريخ وتذكر لأحداثه، نحن أصحاب ذاكرة ضعيفة ومصابون بداء " النسيان" حتى أن موشيه دايان عندما أراد شن عدوان الخامس من يونيو ١٩٦٧ على مصر بنفس الخطة العسكرية التي طبقها في العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦، رد على من تحفظ على ذلك بالقول " عرب لا يقرؤون وإذا قرؤوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يتحركون".
لقد جاء الرئيس عبد الفتاح السيسي فأوقف توظيف نظرية المؤامرة من قبل النظام السياسي وبدأ في مصارحة الجميع بنواقص في الفكر والأداء، وبدأ الرجل يتعرض لحملة ضارية من مروجي نظرية المؤامرة الذين يرون أن أوضاعنا على ما يرام وليس في الإمكان أبدع مما كان، مستفيدين من نشر هذه النظرية في الإبقاء على حالة الهوس بنظرية المؤامرة والتردي الشامل في بلادنا. على النحو الذي شهدناه في ترويج البعض لفكأناله الصهيونية العالمية هي التي تقف وراء جريمة باريس. وفي تقديري أنها معركة صعبة للغاية يخوضها الرئيس بوعي تام ورغبة في وضع البلاد على أول طريق التقدم الحقيقي، المشكلة أن لأنصار نظرية المؤامرة أرضية كبيرة في الشارع وفق نسبة الجهل والأمية، ولكننا نثق في الوقت نفسه أن للرئيس شعبية تمكنه من تحقيق إنجازات كبيرة يصعب على غيره تحقيقها.
د. عماد جاد للمصري اليوم
