بقلم : إميل أمين
مركز دراسات احوال مصر
مركز دراسات احوال مصر

لعل المؤرخين المعاصرين يقدر لهم أن يطلقوا اسم “المرحلة الداعشية” على الفترة الممتدة من أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين والتي لا يعلم أحد على وجه الدقة متى وكيف لها أن تنتهي. هذا إذا انتهت بالفعل في شكلها الظاهري الأولى كميليشيات، ولم تتحول لاحقاً إلى مرحلة حروب إقليمية مفتوحة، أو مواجهات بين القوى العظمى لسبب أو لآخر. لاسيما وأن أحداً لا يملك رؤية واضحة لما يجري على الأرض، وذلك باعتراف الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه بأن أجهزة الاستخبارات في بلاده قد أخطأت تقدير قوة وحضور رجالات “الدولة الإسلامية في العراق والشام” داعش.
والشاهد أن محاولة قراءة “المشهد الداعشي” في الحال والاستقبال يتقاطع مع أسئلة جوهرية عريضة تبدأ من عند من وراءها؟ ولا تتوقف عند ما مصيرها؟ إذ يوماً تلو الآخر تظهر معادلات جديدة في سياق تطور هذه الحركة.
على أن الأحجية التي تثير غبار يعيق شكلاً وموضوعاً قراءة رائعة صافية للقضية، هي علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الظاهرة الخطيرة، وهل واشنطن تقف ورائها، وتستخدمها كإحدى أدواتها البراجماتية لتحقيق مصالح تتجاوز حدود العراق وسوريا، إلى ما هو أبعد، وماذا عن شكل تلك العلاقة؟ ثم الأهم هل ابتدعت واشنطن “داعش” كورقة تعويضية تحقق بها في الشرق الأوسط والعالم العربي بالعنف المسلح ما عجزت عن تحقيقه بأدوات السياسية وما أطلق عليه الربيع العربي؟
داعش في غموض الأصل والمنشأ:
يبقى السؤال الهام والأولي هو كيف نشأت داعش وماذا عن الضبابية التي تلف هذا المنشأ؟
واقع الحال لا يملك أي باحث محقق مدقق، وموضوعي صادق، أن يجزم بمطلقية صحة أيا من الروايات الشائعة والذائعة، وقد تكون الحقيقة متشابكة بين عدد من تلك الرؤى والأحاجي، بقصد أو بغير قصد.
يعتبر العام 2004 بداية تأسيس هذا التنظيم في العراق، إذ حمل في البداية اسم “جماعة التوحيد والجهاد” بزعامة الأردني “أبي مصعب الزرقاوي” الذي لقي حتفه لاحقاً على يد القوات الأمريكية في العراق، وبعد أن التصق التنظيم مع القاعدة في ذات العام، اختار اسماً جديداً له وهو تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين.
وفي العام 2006 حدثت النقلة في هذا التنظيم حيث أعلن الزرقاوي عن تشكيل مجلس شورى المجاهدين بزعامة عبد الله رشيد البغدادي، وفي العام ذاته قتل الزرقاوي، ليحل أبو حمزة المهاجر زعيماً للتنظيم، ومع إعادة التنظيم لهيكلته تم تشكيل ما يسمى بدولة العراق الإسلامية بزعامة أبي عمر البغدادي، وخلال المواجهات مع القوات الأمريكية قتل أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر … ليصبح بعد ذلك أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم الإرهابي.
يفهم من السطور المتقدمة أن داعش ولدت ونشأت عراقياً، فكيف لها إذن أن تجذرت في سوريا؟ باختصار غير مخل لقد استغل مقاتلوا داعش التخاذل الدولي حيال إنقاذ الشعب السوري، وتفاقم الأوضاع هناك، وبدؤوا يتدفقون إلى سوريا من أوكارهم من مختلف بقاع العالم، عبر الحدود التركية التي تبلغ حوالي 800 كيلو متر، وكذلك عبر الحدود العراقية التي تصل إلى حوالي 600 كيلو متر، بذريعة الجهاد.
في بادئ الأمر، تفاعل السوريون مع هذه الموجه من الشباب القادم للوقوف معهم، بعد أن بدأت الأزمة تأخذ شكل الحرب المذهبية، أضف إلى ذلك تدفق المقاتلين الشيعة من حزب الله وألوية “أبو الفضل العباسي” العراقية … ما جعل السوريين يستنجدون بكل تضامن إرهابي انقلب عليهم واستباح دمائهم.
هل داعش حركة أمريكية إسرائيلية؟
ضمن تفسيرات ظهور داعش ذلك الذي يتصل بعلاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، وكيف أنها حركة تشابه كثيراً القاعدة وطالبان من قبل، بل وصل الأمر على سبيل المثال بأن يصرح المرشد الأعلى الإيراني “آية الله خامنئي” إلى القول جازما أن إيران “تملك” “براهين” على أن داعش قد أقيم على يد الولايات المتحدة من أجل سحق نظام بشار الأسد في سوريا والحكومة الشيعية في العراق… هل لهذا الحديث من نصيب صحيح؟
ربما يكون ذلك كذلك بالفعل، وما عزز تلك الشكوك التقرير الذي نشرته صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية، وفيه صورة فوتوغرافية تجمع بين السيناتور الأمريكي جون ماكين وزعيم تنظيم داعش الإرهابي أبو بكر البغدادي، الأمر الذي يشكل دليلاً على وجود ارتباط خفي بين الولايات المتحدة وزعيم تنظيم داعش، كما يمكن أن يفسر على أن واشنطن تظهر أنها عدو لذلك التنظيم، ولكنها في الحقيقة موجها له، وداعمة ماليا واستخباراتيا لتحركاته وأنشطته.
هذه الرؤية تدفعنا لطرح علامة استفهام جدية: “لماذا لم تقتل أمريكا البغدادي بضربة جوية سريعة عندما حددت مكانه بدقة في العراق خلال الفترة الأخيرة؟ والثابت أن ما تقدم يحملنا على الشك الجدي بوجود ارتباط وتعاون بين الطرفين، ويظهر أن داعش بشكل أو بآخر على اتصال بقنوات أمامية أو خلفية أمريكية، حيث إنه كان معتقلاً في السجون الأمريكية من قبل، وقد أطلقت واشنطن سراحه بشكل غريب … فكيف تطلق سراحه وهي تعلم أنه إرهابي خطير ثم بعد ذلك تعلن عن مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه أو وفاته؟
بعض الأصوات كذلك تربط بين استشراف المكنونات السلبية لأعمال داعش، وبين إضعاف الدول العربية عامة، وفي المقدمة منها ما كان يعرف تاريخياً بـ “دول الطوق” أي مصر وسوريا والأردن، وقريب منها كان العراق، ولهذا فإن المستفيد الوحيد في المنطقة من أعمال داعش هي إسرائيل، والدليل على ذلك محاولة تصدير النسق الداعشي المتجلي في قطع الرؤوس.
وما بين السيناريوهات المتعددة، تبقي هناك حقيقة واحدة قائمة تتمثل في عدة عشرات آلاف من الداعشيين على الأرض، يمثلون خطر حقيقي، مهما كان منشأهم، لكن الخطورة الحقيقة في توجهاتهم المستقبلية، وما سينجم عن طرق ملاقاتهم والتصدي لأعمالهم الوحشية.
هل داعش أقوى من القاعدة؟
ولأن خطوط وخيوط هذا التنظيم مريبة، فالأمر يقتضي الوقوف على منطلقين أساسيين كي يفهم المرء من وراءه وإلى أين يمضي، الأول هو مدى قوة التنظيم وهيكلياته العسكرية، والثاني في قدرته المالية، التي تعد الجناح المساعد والمتمم للقوة المسلحة.
مع أوائل شهر سبتمبر 2014، أعلنت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIAأن عدد مقاتلي تنظيم داعش، في سوريا والعراق، يتراوح بين 20 ألف و31 ألف و500 مقاتل، في تقديرات جديدة تزيد بأضعاف عن تقديراتها السابقة البالغة 10 آلاف مقاتل.
في هذا الإطار تحدث “راين تراباني” المتحدث باسم “السي أي إيه” لوكالة فرانس برس بالقول: “إن تقديرات السي أي إيه هي أن تنظيم الدولة الإسلامية يجمع ما بين 20 ألف و31500 مقاتل في العراق وسوريا”.
غير أن مصادر أمريكية ودولية في نهاية سبتمبر عينه، ذهبت إلى أن عدد قوات داعش يبلغ نحو خمسين ألفا تقريبا.
على أن الخطورة الحقيقة ليست في الأرقام بقدر ما هي نوعية وقدرات وفاعلية مقاتلي داعش، إذ يشير بعض الباحثين الأمنيين المتخصصين في شؤون الإرهاب والاستخبارات إلى أن مستويات المهارة التقنية التي أظهرها عناصر تنظيم “داعش” تثير الفزع، خاصة على صعيد تشفير التسجيلات الخاصة بهم، كما أن المعتقدات القوية لدى أفراد التنظيم وحداثة نشأته تصعب على أمريكا اختراقه أمنياً.
من بين هؤلاء الخبراء “بوب باير” المختص في هيئة شؤون الأمن الداخلي الأمريكية والعميل السابق لدى وكالة الاستخبارات المركزية، الذي تحدث إلى شبكة CNN الإخبارية الأمريكية عن مهارة داعش في اجتذاب شباب على مستوى عال من التعلم والثقافة والقدرات المعلوماتية، والذي قال: “إن داعش على قدر كبير من التطور وعلى كل المستويات، فمثلا اتضح لي أن نظام التشفير المستخدم في التسجيلات من قبل الذين قاموا بقتل الصحفيين “فولي وسوتلوف” قد صممته شركة في ولاية ميريلاند الأمريكية.
وأضاف: “حاولت الاتصال بالشركة لمعرفة كيفية وصول نظامها إلى يد داعش، ولكنني لم أحصل على رد بعد، وأهمية نظام التشفير هذا أنه لا يترك ما يعرف ب “الأبواب الخلفية” التي تسمح باختراق الشفرة لاحقاً، ما يدل على مدى تطور المشاركين في العملية وقدراتهم الكبيرة على مستوى التكنولوجيا وأدوات التواصل الاجتماعي.
على أن أخطر ما يشير إليه باير هو أن العدد الكبير للغربيين في صفوف داعش يثير القلق الشديد، لاسيما وأنه عدد يفوق بكثير عدد الأجانب الذين انضموا إلى تنظيم القاعدة، ما يدل على تفوق داعش مقارنة بالقاعدة.
في القدرات المالية لتنظيم داعش:
من يمول تنظيم داعش ؟ بالواقع إن التحليلات والتفسيرات قد اختلفت حول مصادر تمويل داعش، لكن في كل الأحوال يمكننا القول إن “الدولة الإسلامية في العراق والشام” تعتبر المنظمة الإرهابية الأفضل تمويلاً في العالم، حتى أنها أغنى من بعض الدول الصغيرة، وعلى خلاف الجماعات الأخرى التي تعتمد على دول راعية أو جهات مانحة رئيسية أو إساءة استعمال المساعدات الخيرية، فإن داعش مستقلة ماليا بسبب أنشطتها الإجرامية الناجحة.
فحين كانت الجماعة تعرف باسم “تنظيم القاعدة في العراق” كانت تجني أموالاً تصل إلى 70 مليون دولار أمريكي سنوياً من خلال الأنشطة الإجرامية وأصبحت ثرية إلى درجة دفعت ب “تنظيم القاعدة” المركزي إلى طلب المال منها في عام 2005.
وتستمر داعش في الانخراط في أنشطة غير قانونية كالتهريب وابتزاز الأموال والجرائم الأخرى، كما أن عدم ارتباط التنظيم بجهات مانحة رئيسية قد ساعد الجماعة على التهرب من التدابير المالية لمكافحة الإرهاب على أن شبه المؤكد ما يسطو عليه التنظيم من أموال لمؤسسات النظام السوري، حصل ذلك في السطو على البنك المركزي في دير الزور، وعلى الكثير من المؤسسات الخدمية الإنتاجية في حلب.
ولعل حداثة مصادرة داعش لكميات كبيرة من الذهب من إحدى أحياء حلب الراقية في مدينة الشباب أكبر دليل على سلاح السطو، ولا ننسى أيضاً السيطرة على الغاز والنفط، ففي العام الثاني من الثورة سيطرت داعش والنصرة على كل المنتجات الزراعية في حلب وريفها وفي دير الزور وريفها، وعملت على تصديرها بمليارات الليرات … وكل هذه العوائد تذهب إلى تعزيز القدرات العسكرية على حساب ثروات الشعب السوري.
أما المصدر الثاني من التمويل، فتؤكد شخصيات من الجيش السوري الحر، كانت مقربة من هذا التنظيم، إن كل شخص يأتي إلى هذا التنظيم من الخارج، يقوم بجولة على الخلايا النائمة في الخارج لجمع الأموال وإيصالها لقائد التنظيم، خصوصاً هؤلاء القادمين من دول الخليج وأوربا. والشاهد أيضاً أن هناك مصدراً مثيراً آخر وراء تمويل داعش، فقد غذت عملية السطو على البنك المركزي في الموصل صندوق تمويل الحرب ل “داعش” ذلك الصندوق الذي يتمتع بالفعل بتمويل جيد بفضل الأنشطة الداعشية الإجرامية.
في هذا الصدد يحدثنا “دافيد ريغولي” الباحث في المعد الفرنسي للتحليل الإستراتيجي بأن التمويل الذي تتلقاه داعش ملتبس لأنه من غير الممكن معرفة ما إذا كانت دول بعينها تقف وراء هذا التمويل أم عائلات ضمن هذه الدول هي التي مولت هذه المنظمة خاصة وأن العلاقات بين الدولة وهذه العائلات مليئة بالثغرات.
وفي كل الأحوال، ولسوء الحظ، لا يعتبر قادة داعش أناساً همجيين وحسب، فهم أذكياء أيضاً وتمكنوا تدريجياً من الوصول إلى الاستقلالية المادية، وتقدر ثروتهم اليوم بملياري يورو، ويدخل خزينتهم يومياً مليون دولار عن طريق ابتزاز الأقليات الدينية، واقتطاع ضرائب حق المرور على الطرقات، وبيع نفط المصافي التي سيطروا عليها، وبالتالي تدعو الحاجة لمكافحتهم بصورة فعالة إلى قطع موارد التمويل عنهم واستعادة السيطرة على المصافي التي تختزل نصف مردودهم تقريباً … هل هناك من له مصلحة في تخليق الوحش من جديد؟ بمعنى هل هناك من يريد إظهار داعش بأنها تستحق إعلان الحرب عليها وتحريك القوات من أجلها؟ وما الهدف الحقيقي من وراء مثل هكذا تفعيل للمخيلة وإدارة للرؤوس؟
الأمريكيون يفضلون حرب داعش:
في أوائل سبتمبر 2014 نشرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية نتائج استطلاع للرأي، أظهر أن الجمهور الأمريكي قد بدأ يتخلى عن المعارضة الشديدة للعمليات التي قامت بها الولايات المتحدة بعد حرب فيتنام، وتعززت بعد حرب أفغانستان والحرب العبثية التي شنها الرئيس السابق جورج بوش في العراق. وتشير نتائج الاستطلاع إلى الدعم الكبير للقصف الجوي لأهداف داعش في العراق وسوريا ليس بالصدفة، فقد بدأ دعم القصف بالتعاظم بعد أن رفعت داعش للشبكة مقاطع مسجلة توثق قطع رأس الصحفيين الأمريكيين “جيمس فولي” و”ستيفين سوتلوف” ويرى 90% من الأمريكيين بالتنظيم الإرهابي تهديداً جدياً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة، ويقول 60% منهم أنه تهديد جدي للغاية.
هل كان المقصود من فكرة تخليق الوحش الداعشي إذن دفع الأمريكيين من جديد إلى الدخول في دائرة الحرب ثانية؟
استطلاع الرأي المشار إليه يظهر أن شعب الولايات المتحدة يبدو وكأنه يطلق للحكومة والكونجرس يداً حرة في توجيه ضربة قاضية لداعش. فحسب النتائج هناك 71% من الأمريكيين يدعمون القصف الجوي في المنطقة العراقية، مقارنة ب 54% قبل أسابيع ثلاثة، و45% منذ يونيو، ومن بين المجيبين الذين يعتقدون أن أوباما حذر أكثر مما ينبغي، تبلغ نسبة المؤيدين للقصف حتى 82%، ومن بين أولئك الراضين عن الطريقة التي يدير بها أوباما سياساته الخارجية، يؤيد 66% منهم القصف الجوي.
كذلك تحظى الهجمات المحتملة في سوريا بدعم قوي. إذ يؤيد 65% من المجيبين هذه الهجمات، وهي ضعف نسبة الداعمين لقصف أهداف نظام الأسد في رد على رفضه التنازل الكيماوي، قبل سنة، وسجل أيضاً ارتفاع بنسبة التأييد لمنح الدعم العسكري للقوات الكردية التي تقاتل المتطرفين الإسلاميين 45% في أغسطس 2014، حتى 58% من الدعم الآني.
كما يتوقع أن هناك تأييدا كبيرا لرفع مستوى العمليات العسكرية ضد داعش وخاصة في أوساط الجمهوريين، لكن أغلب الديمقراطيين يؤيد أيضاً القصف في العراق وسوريا.
وفي الكونجرس يطالب أعضاء جمهوريين وديمقراطيين على السواء بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، ويرى كثيرون أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يملك الصلاحيات اللازمة لشن حملة جوية، لكن بعض النواب في الحزبين يدعون إلى تصويت رسمي للسماح بشن عملية عسكرية واسعة النطاق لاسيما إذا كانت تشمل إرسال جنود أو مجرد مستشارين عسكريين إضافيين.
ولكن يبدو أن القادة البرلمانيين لا يميلون لطلب تصويت في أوج فترة انتخابية، لكنهم ينتظرون بلورة إستراتيجية جوية وبرية وبحرية حقيقية.
والشاهد أن الأصوات اليوم داخل واشنطن لا تستبعد بحال من الأحوال الهجوم البري، وهذا ما أشار إليه “جون باينر” رئيس مجلس النواب الأمريكي، أما النائب مايك روجرز رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب فقد أشار في تصريحات له لشبكة “فوكس نيوز” الأمريكية إلى أنه “يجب أن يثب أنه قائد وأنه يمكنه جمع الشركاء من الجامعة العربية، وهو ما لم يتمكن من القيام به في السابق، وأن يدفع حلف شمال الأطلسي إلى القيام بجهد أكبر والمقصود بالطبع هنا هو الرئيس الأمريكي باراك أوباما… هل بات المجتمع الأمريكي، عبر التأثير على قواعد الرأي العام فيه جاهز ومن جديد لفكرة الحرب، بعد استحضار روح الإرهاب التي طفت على سطح الأحداث في 11 سبتمبر 2001، وها هي تعود اليوم ومن جديد؟ ثم وهذا هو الأهم من هو الطرف المقصود بالحرب الحقيقة لا الظاهر على السطح فقط؟
تحالف أكثر من اللازم يثير القلق:
قبل بدء انطلاق الحملات الجوية على الأماكن المتواجد بها مقاتلي الجماعة الإرهابية “داعش”، تحدث أمين عام جامعة الدول العربية السابق السيد عمرو موسى قائلا: “إن قيام تحالف دولي بهذا الشكل لمواجهة جماعة إرهابية بهذا الحجم أمر في واقع الحال يثير الشكوك لجهة المقصد الحقيقي من وراء هذا التحالف، وهل يتجاوز مواجهة داعش إلى أسباب أخرى أم لا؟”
يلفت النظر في هذا التصريح مسألة الشكوك وراء عودة القوات الغربية عامة، والأمريكية والبريطانية خاصة إلى العراق وسوريا بنوع خاص. الشكوك في واقع الحال تجاوزت المسئولين العرب إلى آخرين من العجم، خذ إليك مثالا ما أعربت عنه وزيرة الخارجية الأسترالية “جولي بيشوب” في حوارها مع صحيفة “سيدني مورنينج هيرالد” إذ أشارت إلى أن: “التحالف الدولي الذي تشكل تحت رعاية الولايات المتحدة لمحاربة داعش غير قادر على تدمير هذه المجموعة” لماذا هو إذن هناك؟
بالنسبة للعراق يستطيع المرء أن يجادل بأن هناك “لطمة قاسية” قد تلقتها الاستراتيجية الأمريكية في العراق، في الأعوام الأخيرة، لاسيما بعد الانسحاب الكامل لعديد قواتها المسلحة من هناك.
ومفاد الأمر أن واشنطن التي تكبدت نحو خمسة آلاف جندي قتلى وخسائر مالية بلغت من 3-5 تريليونات دولار، في الإنفاق على غزو العراق، ومن بعد في إدارة شؤونه، اكتشفت مؤخراً أن كل جهودها قد ذهبت سدى، وأن العراق لا يزال في ارتباط عقائدي قوي تزداد متانته يوماً تلو الآخر مع إيران، العقبة الأكبر أمام الولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي، إضافة إلى ذلك وجدت واشنطن بغداد تتجه صوب موسكو من جديد لشراء أحدث أسلحة الترسانة الروسية الحديثة، والتي لا تقل كفاءة عن نظيرتها الأمريكية ، أما الطامة الكبرى فقد وجد الأمريكيون أن العراقيين يفضلون بيع نفطهم إلى الصينيين وذلك مفهوم، في ظل تهافت الصينيين على مصادر الطاقة حول العالم، لضمان تأكيد قطبيتهم القادمة بامتياز، وهي القطبية التي تتصارع وتتشارع مع القطبية الأمريكية المنفردة.
أما فيما يخص سوريا، فهذا حديث مطول قائم بذاته، وإن كان لا يخلو من ثلاثة مشاهد تبرر نشوء وارتقاء داعش هناك، ثم العمل على مطاردتها ثانية، فأولاً تفكيك الدولة السورية القومية، بما يصب في صالح إسرائيل، وإزاحة تحدي إستراتيجي كان ولا يزال ماثلاً من حولها منذ أكثر من أربعين عاما، والثاني التشريع بتنفيذ مخطط سايكس بيكو الثانية، عبر تقسيم سوريا بما يعزز ويسهل قيام دولة الأكراد المستقلة في اتصالها بالجزء العراقي المجاور، مع ما لإسرائيل وليهود العالم من مصلحة في هذه الدولة، وما لشركات النفط الغربية من مصالح استراتيجية في المنطقة التي تتواجد فيها ثروات نفطية هائلة، وثالثا فك الارتباط الوثيق بين سوريا وإيران للضغط على إيران من أجل تقديم التنازلات فيما خص مشروعها النووي. وبين هذه جميعا يبقي مشروع الغاز الأكبر المكتشف في حوض البحر المتوسط وما تمثله سوريا من أهمية جيوسياسية بالنسبة له، حيث تشرف موانئها على أطرافه.
هل أمريكا في حاجة إلى حروب جديدة؟
لا تعرف الولايات المتحدة الأمريكية سوى لغة القوة من أجل تحقيق أهدافها، فالرجل الأبيض الذي استعمر القارة الجديدة، ولكي يثبت أقدامه عليها، لم يكن عليه سوى قتل وإبادة نحو 120 مليون هندي أحمر، ويقال أن كل رئيس أمريكي لابد له من حربه الخاصة التي يثبت عبرها أقدامه في طول البلاد وعرضها، ويسجل اسمه في تاريخ القياصرة الأمريكيين. هل ينطبق الأمر على أوباما في حاضرات أيامنا؟
لنستمع إلى ما يقوله “سيرغي فيلاتوف” المحلل الروسي الأكبر في وزارة الخارجية الروسية إذ يشير إلى أن: “العدوان الأمريكي ضد يوغسلافيا جرى من دون قرار من مجلس الأمن الدولي، والشيء نفسه تكرر في العراق، أما في أفغانستان فقد سعى حلف شمال الأطلسي لأن يكون بديلا عن منظمة الأمم المتحدة، وبالتالي عليه أن يتكرر الوضع. ففي أي حال واشنطن بحاجة إلى هذه الحرب… لماذا؟
الشاهد أن الولايات المتحدة تجد نفسها الآن في أزمة سياسية، حيث انقسم الديمقراطيون والجمهوريون مناصفة وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال التصويت في الكونجرس، كما أن الأزمة المالية تشهد تفاقماً ملحوظاً والديون الخارجية الهائلة آخذة في الازدياد. ففي مرحلة ما يجب أن ينهار هذا الهرم المالي. بالإضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة تشهد أزمة اقتصادية مستعرة، فالخدمات الحكومية بما في ذلك القطاع المصرفي وسوق المضاربة تقدم 70% من الناتج المحلي الإجمالي ولمعالجة هذه القضايا، تحتاج الولايات المتحدة لحياة هادئة تمتد لفترة ما بين 8-10 سنوات. ولكن لتحقيق ذلك على بقية العالم أن يغوص في الفوضى، ويجب أن ينصب بالتالي اهتمام هذا العالم على حل الصراعات المسلحة بدلا من اهتمامه بالتطور والتقدم هل الدعشنة جزء أساسي من سياسات أمريكا التقليدية؟
التاريخ القديم والحديث لواشنطن يؤكد على أن أمريكا قد مارست الدعشنة أول ما مارستها في تشكيل عصابات الكوكلوكس كلان في حربها ضد جزء من شعبها، وفي تشكيل مافيا المخدرات في أمريكا اللاتينية، ومارستها في تشكيل جيش فيتنام الجنوبية، ومارستها بتشكيل المجاهدين في أفغانستان.
واليوم ليس من المستغرب أن تظهر داعش في زي الصحراء باللثام والخنجر، والأيدي الملطخة بالدماء، إن داعش هي كوكلوكس كلان أمريكا في الشرق الأوسط، وهي تستنسخ كل شيء في تلك المنظمة الإرهابية، فكرها العنصري بتفاصيله وممارستها في القتل والحرق، بل وحتى مظهر أفرادها المقنعين أو الملثمين.
وحتى تضمن أمريكا الفوضى كان لابد من تدويل المشهد الداعشي عبر استنساخ جديد لمنظومة الحرب على الإرهاب، حتى ولو بدون قرار من مجلس الأمن، بعد أن هيأت شعبها وبات الكونجرس قاب قوسين أو أدنى من السماح بحرب برية.
على أن البعد الخفي في كل ما يجري والمقصد الحقيقي، ربما لا يتعلق بالشرق الأوسط والعالم العربي، بل المقصود هما روسيا والصين، وهذه قصة قائمة بذاتها، ذلك أن ما جرى ويجري في العالم العربي منذ أربع سنوات، لم يكن إلا خطوة في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية الكبرى للقرن الحادي والعشرين تلك التي بدأت من عند “القرن الأمريكي” للمحافظين الجدد، وصولاً إلى “الاستدارة نحو آسيا” والتي تستخدم فيها واشنطن الحركات الراديكالية الإسلامية، في الشرق الأوسط والعالم العربي لتصعدها لاحقاً إلى الصين وروسيا، وما يجري في هونج كونج، ومقاطعات الإيغور في الصين، عطفاً على أوكرانيا وسيناريوهات أول القصيدة كفر كما يقال.