د. أماني سليمان
مدرس التاريخ الحديث والعلاقات الدولية بمعهد دراسات البحر المتوسط، كلية الآداب - جامعة الإسكندرية
أظهر الاختلاف بشأن سياسات استقبال المهاجرين الجدد، أن الفرقاء الأوروبيين لديهم رؤى متباينة قد تصل إلى حد التضاد فيما يتعلق باستقبال القادمين إلى أراضي الاتحاد، وكيفية التعامل معهم قانونيًّا وأمنيًّا. ويتأتى العامل الحاسم الجديد على ساحة النقاش الأوروبي هذه المرة في البعد الإنساني لأزمة تدفق المهاجرين القادمين من مناطق الصراع أو الأزمات؛ فالنقاش الجاري حاليًّا يتعامل مع المهاجرين بعد منحهم صفة جديدة ألا وهي صفة "اللجوء السياسي والإنساني"؛ أي باعتبارهم لاجئين Refugees بحاجة إلى إغاثة عاجلة، وهو ما جعل البعض في أروقة المفوضية يُعيد تعريف الملف بأنه يبحث في شأن اللجوء السياسي Asylum لا الهجرة Immigration بمعناها المعتاد. وبما أن البعد الإنساني وضرورة الإغاثة العاجلة قد طفا على السطح، فلا بد من تعامل جديد تتراجع فيه اعتبارات مشروعية أو قانونية الوصول إلى أراضي دول الاتحاد الأوروبي.
وعلى هذا فقد أعلنت المفوضية الأوروبية في بروكسل أنها بصدد تحديد حصص ملزمة لدول الاتحاد الأوروبي يتم بمقتضاها استقبال اللاجئين، سواء من القادمين مباشرة إلى أوروبا، أو العالقين في دول ثالثة مثل الأردن وتركيا. ووضعت المفوضيةُ معايير أولية - ما زالت قيد النقاش - لتحديد هذه الحصص، بحيث يُراعى عدد سكان الدولة المضيفة، وإجمالي ناتجها القومي، ونسبة البطالة بين السكان، وأخيرًا الأعداد التي قبلتها من المهاجرين بالفعل، ونسبتها إلى مجموع من تقدموا بطلبات اللجوء. وأعلنت المفوضية أن المرحلة الأولى للمشروع - إذا توافق عليه الشركاء الأوروبيون - سوف تتم بالتعاون مع مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، وسيبدأ التنفيذ باستقبال عشرين ألف شخص من المهاجرين اللاجئين في تركيا والأردن، وخصصت لإعادة توطينهم موازنة تقدر بخمسين مليون يورو مبدئيًّا. هذا بالإضافة إلى إعادة توزيع أربعين ألف شخص ممن وصلوا بالفعل إلى إيطاليا واليونان خلال الأعوام القليلة الماضية.
ردود الفعل الأوروبية على مشروع الحصص الإلزامية Binding Quotas
ترى بعضُ الدول الأوروبية - وعلى رأسها إيطاليا- أن نظام الحصص فيما يتعلق باستقبال المهاجرين اللاجئين سيُزيح جزءًا من العبء المُلقى على كاهلها، والذي لا يمكن إنكار تزايده منذ تصاعد أحداث ما يُسمى بالربيع العربي منذ عام 2011 وحتى الآن. فإيطاليا التي تمثل سواحلها أهم نقاط وصول مهاجري اللجوء، تؤيد وبقوة ضرورة تطبيق نظام الحصص الملزمة على دول الاتحاد وفي أقرب وقت ممكن. وتشاركها الرأي اليونان التي تتطلع إلى أن يخلصها نظام الحصص من آلاف المهاجرين واللاجئين الذين يصلون إليها عن طريق حدودها البرية والبحرية على حد سواء. أما ألمانيا وباعتبارها القاطرة التي تقود الاتحاد وتستقبل كذلك أكبر نسبة من طلبات اللجوء السياسي أو إعادة التوطين فقد أبدت ترحيبها بنظام الحصص، مشددة على وجوب توافق الجماعة الأوروبية على تمريره بأغلبية كبيرة وليست بسيطة حتى لا يتسبب في خلافات داخل الاتحاد الذي تجاهد ألمانيا لرأب أي صدع يطرأ عليه، ولذا أعلنت الحكومة الألمانية أنها ستصوّت في صالح تطبيق نظام الحصص، وستلتزم بتطبيقه حال إقراره أوروبيًّا. أما المملكة المتحدة وأيرلندا والدنمارك فسوف يتم إعفاؤهم من الالتزام بالحصة، بحسب الاستثناءات التي يتمتعون بها بفعل حق عدم المشاركة في بعض المشروعات الأوروبية (EU Opt-out rights) على أن يحتفظوا بحق التصويت على قبول المشروع من عدمه. وتعتزم بريطانيا التصويت بـ"لا"، بل وتطرح خيارًا للقيام بعمليات عسكرية محدودة في البحر المتوسط ضد تجار البشر تستهدف إغراق مراكبهم، وتدمير الخط اللوجستي غير الشرعي القائم بين ليبيا والساحل الإيطالي.
وتتبنى بعض الدول الأوروبية موقفًا غير واضح ومتذبذب، وتأتي على رأسها فرنسا التي أعلنت في البداية أنها توافق على الحصص الإلزامية، بل وستصوت في صالحها. ثم عاد الفرنسيون ليُظهروا قلقهم بشأن الخطوات الإجرائية لتحديد الحصص، وتشككهم في دقة وعملية النظام. دون أن يوضح الفرنسيون ما إذا كانوا سيصوتون في صالح المشروع أم لا حال طرحه على الشركاء الأوروبيين لاتخاذ قرار بشأنه.
أسباب رفض مشروع إعادة توزيع المهاجرين
تأتي المجر على رأس الدول الرافضة للمشروع، وصرح رئيس الوزراء فيكتور أوربان بأن هذه الفكرة ما هي إلا ضرب من الجنون. وطالب أوربان بالنظر إلى الموضوع في حجمه الصحيح، أي أنها محاولات للهجرة غير الشرعية تخترق القوانين والمواثيق الدولية، ولا تحترم الحدود الشرعية، وعلى الدول الأوروبية ألا تساعد هؤلاء الطامحين إلى المعيشة في أوروبا على اختراق حدود بلادهم، ثم تترك مسئولية إعالتهم على دول أخرى. فهؤلاء القادمون الجدد - بحسب رأي أوربان والحكومة المجرية - يتذرعون بالظروف السياسية في بلادهم لإثقال دول الاتحاد الأوروبي بمشكلاتهم، ومشاركة الأوروبيين فرصهم المحدودة في الحياة. وأطلقت المجر استبيانًا أو استشارة غير ملزمة لاستطلاع آراء المجريين حول الهجرة وعلاقتها بالإرهاب، وهو ما عدته مؤسسات أوروبية وعالمية حقوقية أمرًا استفزازيًّا ومثيرًا للكراهية ضد الأجانب.
أما الدول التي أعلنت صراحة رفضها للمشروع واعتزامها التصويت بـ"لا" ضد تطبيق الحصص الإلزامية فقد أرجعت رفضها هذا إلى عدة أسباب نجملها فيما يلي:-
- إلزامية الحصص: فقد أبدت دول أوروبية عدة رغبتها في تحمل عبء استقبال وتوطين اللاجئين، سواء ممن وصلوا بالفعل إلى أوروبا أو من سيتم استقدامهم من الأردن وتركيا؛ إلا أن اعتراضهم يرتكز على أن تكون الحصص إلزامية لا على أساس طوعي. كما أن معظم هذه الدول اعترضت على استقبال اللاجئين دون أن تقوم بفحص ملفاتهم الأمنية والعملية. فما بين القلق من تسلل عناصر إرهابية والرغبة في ضم العناصر المتميزة علميًّا أو مهاريًّا؛ ترى الدول الأوروبية أنه يجب أن يكون لها الحق في اختيار من يستوطنون أراضيها، وينضمون إلى سكانها.
- الاستعداد للدعم دون استقبال المهاجرين: وهو الطرح الذي تقدمه عدد من الدول الرافضة للمشروع، والتي أبدت استعدادًا غير مشروط لمساعدة اللاجئين في أماكن لجوئهم، سواء أكانت في أوروبا أو في أي من دول اللجوء. وتأتي التشيك وإسبانيا وسلوفاكيا في مقدمة هذه الدول التي ترى أن الدعم بالغذاء والدواء والخدمات الطبية وجهود الإغاثة بشكل عام هو ما يجب أن يكون تقديمه إلزاميًّا من قبل الاتحاد وليس استقبال آلاف الأجانب على أراضي دول الاتحاد.
- معاناة بعض الدول من تدفق الهجرة بالفعل: عللت بعض الدول الأوروبية رفضها لاستقبال مهاجرين جدد بزعم أنها ترزح بالفعل تحت ضغط تواجد الآلاف منهم على أراضيها دون أن يمد الاتحاد يده بالمساعدة، أو يحاول إعادة توزيع هؤلاء كما وعد في حالتي إيطاليا واليونان. وتأتي بلغاريا على رأس هذه الدول، وتؤكد أن آلاف المهاجرين السوريين قد تدفقوا إلى أراضيها بوسائل شرعية وغير شرعية عبر حدودها المشتركة مع تركيا. أما إسبانيا فترفض المشروع، معللةً ذلك بأنها كانت وما زالت هدفًا لعمليات إرهابية كبرى على أراضيها، وأنها ستشترط فحص ملفات هؤلاء القادمين الجدد، ولن تسمح بفرض أي منهم عليها، سواء من ناحية ملفاتهم الشخصية وتاريخهم، أو أعدادهم. وتقول الحكومة الإسبانية إن الاتحاد الأوروبي لم يمد لها يد العون للسيطرة على تدفق الهجرة غير الشرعية إلى أراضيها عبر سبتة ومليلة في شمال إفريقيا، أو عبر جزر الكناري في المحيط الأطلنطي، وهو العبء الأمني والسياسي والاقتصادي الذي تحملته وحدها طيلة عقود. ومن ثم أعلن وزير الخارجية الإسباني إيمانويل جارسيا مارجايو أن هذا المشروع يفتقد للواقعية والإنصاف، وغير قابل للتطبيق. ويأتي تواجد المهاجرين بالفعل كأحد أسباب رفض المجر الصارم لمشروع الحصص. حيث أعلنت المجر أن الآلاف يتدفقون إلى أراضيها عن طريق حدودها مع صربيا، وأن الآلاف من أبناء كوسوفو وسوريا وأفغانستان يعيشون بشكل غير شرعي على أراضيها، وبالتالي فهي تُطالب الاتحاد الأوروبي بمساعدتها في استقبال هؤلاء قبل أن يلزمها بحصة تحت مسمى اللجوء والحالات الإنسانية.
- طبيعة المهاجرين أنفسهم: اشترطت بعض الدول الأوروبية فرض شروط بعينها لاختيار المهاجرين أو اللاجئين ضمن الحصة التي ستُلزم بها. وعلى رأس هؤلاء دولة بولندا التي تتعالى فيها نبرة عدائية ضد المسلمين بشكل عام. وقالت وزيرة خارجية بولندا إيوا كوباتشي صراحة إن بلادها ستكون على استعداد لاستقبال عدد محدود من اللاجئين السوريين على أن يكونوا مسيحيين. وعللت هذا الشرط بحرصها على سهولة اندماج هؤلاء القادمين الجدد في المجتمع البولندي "المسيحي" على حد وصفها. كما أنها -وحكومتها- ترى أن غير المسلمين هم الأكثر تضررًا في نزاعات الشرق الأوسط الحالية، وأن واجب الجماعة الدولية هو حماية الأقليات، مما يفرض على بولندا حشد جهودها -قدر طاقتها- لدعم هذه الأقلية المضطهدة. والحقيقة أن شوارع المدن البولندية الكبرى تشهد ظهور لافتات ضخمة عدائية ضد كل ما يشير إلى الثقافة أو المجتمع الإسلامي بشكل عام، وتحمل هذه اللافتات شعارات تحذر من قبول "الإرهابيين" الذين يرغبون في التسلل إلى بولندا متنكرين في صورة لاجئين ومهاجرين، بل وبمباركة من الاتحاد الأوروبي. أما الاعتراض الثاني على طبيعة المهاجرين فقد جاء على لسان وزير داخلية سلوفاكيا روبرت كالينياك الذي اتهم المشروع بأنه طرح غير خالص النوايا، ويشوبه النفاق، لأن أوروبا التي تسعى لدمج مهاجرين ولاجئين غير أوروبيين؛ رفضت أن تضم رومانيا وبلغاريا لمنطقة السفر الحرة (شنجن) حتى تتجنب عودة قبائل الروما إلى غرب أوروبا بعد أن تم طردهم وترحيلهم، خاصة من فرنسا. ويقول كالينياك إن أوروبا تدعي فتح ذراعيها للمهاجرين الشرق أوسطيين، بينما هي لا تساوي بين الأوروبيين في الأهمية أو القيمة الإنسانية.
ورغم أن مسئولي المفوضية قد حاولوا أكثر من مرة الإشارة إلى أن الدول الرافضة لتمرير مشروع الحصص الملزمة تعمل على تغذية مشاعر كراهية الأجانب، وتعوق الاتحاد -حسب رأيهم- عن أداء التزاماته الإنسانية؛ فإن العديد من المعلقين يرون أن فرض مثل هذه السياسات الجديدة على دول الاتحاد المأزومة ماليًّا واقتصاديًّا هو في الحقيقة ما سيؤدي إلى رفع أسهم الأحزاب النازية والعنصرية واليمينية المتطرفة التي ستُظهر للمواطن البسيط أن أوروبا الموحدة تفرض عليه مشاركة قوت يومه المحدود مع غرباء لأن المفوضية ألزمت حكومته بذلك.
وما زالت المفاوضات جارية بين دول الاتحاد لتقرير مصير عشرات الآلاف من المهاجرين واللاجئين السياسيين الطامحين إلى الانتقال من بلادهم التي تُعاني أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية طاحنة إلى ظروف أفضل وأكثر إنسانية يظنونها متوافرة في أوروبا. وما زال الأوروبيون يبحثون عن حل عادل يوقف نزيف الدماء في البحر المتوسط دون أن يُضيف مزيدًا من الشقاق إلى مشروع الوحدة الأوروبية الذي يرزح بالفعل تحت عشرات المطارق الهدامة اقتصاديًّا وماليًّا وسياسيًّا وقانونيًّا.