كان والدي رحمه الله محاميا ليبراليا شابا ، انحاز في فورة حماس إلى مكرم عبيد باشا ضد ما أطلق عليه حينها فساد مصطفى النحاس باشا أو ما عرف بقضية الكتاب الأسود الذي كتب قصائد الهجاء فيه نظير جيد الذي أصبح فيما بعد البابا شنودة ، وكانت النتيجة سنتين اعتقال بدون محاكمة لظروف الحرب في معتقل الأجانب.
جمع المعتقل والدي مع الضابط أنور السادات المتهم بالتعاون مع الألمان ، وأصبحا أصدقاء معتقل ، وتذكر والدتي رحمها الله أنها حين كانت تذهب لزيارة والدي بأصناف من الطعام كان بعض المعتقلين يشكرونها على طيب الطعام وبعضهم يطلب أصناف معينة المرة القادمة ، وكان أكثرهم مجاملة وتوصية الضابط الأسمر أنور السادات.
وبعد الخروج من المعتقل تفرقت السبل بالجميع ، ولم يلتق والدي بأنور السادات غير مرة واحدة بالمصادفة على عشاء كباب وكفتة في الحسين بدعوة من صديق مشترك حتى حدثت حركة الجيش في 1952.
توجس والدي من الحركة مع غيره من الشباب اليبرالي في الطليعة الوفدية والكتلة والأحرار والسعديين الذين رأوا أن الجيش يجب أن يعود لثكانته بعد طرد الملك ، ويترك البلد للسياسيين ، ويؤدي دوره في حماية الشرعية والحدود ، بينما كان آلاف المدنيين الحزبيين يتوافدون ليل نهار على مجلس قيادة الثورة للتهنئة ، والتأييد ، وعرض الخدمات والإقتراحات والمشاريع.
وبعد شهور كان والدي متوجها لمقر عمله في وزارة المعارف (التربية والتعليم) فوجد بعض عساكر البوليس يحجزون العاملين في بهو الوزارة لدقائق لحين وصول شخصية هامة وصعودها لمكتب الوزير. فانتظر والدي مع المنتظرين.
ووصل أنور السادات محاطا بالحرس وانهمك في رد تحية الحاضرين ثم رأى والدي فأشار إليه قائلا : معقولة يا محمد لا تهنئة ولا مبروك ، يخونك العيش والملح في معتقل الزتون يا راجل ، فأقبل والدي وتعانقا وبرر عدم الزيارة بأنه يدرك مشغوليات القادة ولا يريد إزعاجهم.
لم يقبل السادات هذا وقال : هستنى أشوفك في المجلس يا محمد ، خلينا نضحك شوية على أيام المعتقل السودة ، وكان الضباط وقتها يتباهى كل منهم بعدد المدنيين المحيطين به.
وذهب والدي ، وهنأ ، ورأى كيف يلعق رجال كبار أحذية العساكر ، وكيف يتمايلون طربا لكل ما يتفوه به أي ظابط ، وشعر بالغثيان لدرجة أن استأذن بعد ساعة في الإنصراف وهنأ السادات مرة ثانية. وكانت غلطة كبيرة.
فأحد الأقارب الذي كان يتردد يوميا على مجلس السادات زار والدي في نفس الليلة وأنبه قائلا : كيف تستأذن قبل أن ينهي السادات المجلس وينصرف ، إنت مش بتأذي نفسك بس ، إنت بتأذينا كلنا لأن السادات عارف إننا قرايب .. الناس دي مش هبلة ، مش عملوا حركة عشان يسيبوها لغيرهم ، لازم تنسى الشعارات القديمة عشان يكون لك مكان في النظام الجديد ، وكفاية إن الرجل فاكرك وبيحبك.
فقال والدي الكلمة التي سمعتها منه مرارا : الأهم عندي أن أحب نفسي وليكن ما يكون ، وانتو تقودون البلد إلى كارثة ، ومسيرك تفتكر الكلمة دي.
واكتفى والدي بتدرجه الطبيعي في السلم الوظيقي ، بينما قفز قريبنا قفزات سريعة ، ووقعت الكارثة ، وأعقبتها كوارث ، ولا يزال الإنتهازيون والوصوليون والهتيفة والطبالين يكررون نفس الأخطاء ، لتظل بلدنا محلك سر في كهف التخلف.
رحمك الله يا والدي ، فالأهم أن يحب المرء نفسه ويحترمها وليكن ما يكون.
إسماعيل حسني